جاسر عبدالعزيز الجاسر
في لوحة سريالية محزنة تُجسِّد التناقض السافر في سوريا، حيث يفر منها أهلها بالملايين، ويغزوها آلاف الغرباء من دول الجوار الطامعين، ومن خارج الحدود حتى من وراء البحار.
في سوريا يتجسَّد الضد وضده، يفر أهلها من ظلم دكتاتورها الذي يجد من الأشرار من يدعمه ويسنده حتى لا يسقط، ومن قَدِموا زاعمين مساعدته على التخلص من الظلم، فأضافوا عبئاً إلى عبء، وظلماً إلى ظلم، إرهابيين يحرقون الأحياء ويقتلون الأبرياء ويدمرون البلد، حيث لا يجد أبناؤه مجالاً إلى الفرار والهرب للنجاة من ظلم وقهر الحكام، وإرهاب من هجموا على البلاد كهجمات أسراب الجراد النهمة.
سورية التي كانت يانعة، والتي تزرع غذاءها وتنتجه، فيشبع أهلها وترسل الفائض للجيران، أصبحت الآن مرتعاً للجوع لا يأتيها إلا طلاب القتل، ومن يتقنون عملية الحرب.
يفر الملايين من أبناء البلد فيحل محلهم الغرباء.
السوريون يهربون وفي طريق هروبهم يصبح بعضهم طعاماً للأسماك، وتتحوَّل قيعان البحار قبوراً لهم، هذا إذ ما أبقت الأسماك وحيتان البحار جزءاً من أجسادهم، وينجح ما تبقى منهم في الوصول إلى أرض الهجرة.. أرض الغربة التي تُجسِّد كل صور المذلة والقهر لشعب كان في قمة عنفوانه الذي أُجبر على مغادرة أرضه الخيّرة ليتمتع بها الغرباء، قادمين من بلاد أخرى أكثرهم من إيران وأفغانستان.
من يعرف دمشق سابقاً يجد غربة في التعرف على أحياء دمشق.. وجوهٌ غريبة، ولُكْنةٌ أغرب إن لم تكن لغة أعجمية تملأ فضاء دمشق وتمتد إلى ريفه، وقريباً ستصل إلى حلب وحماة وحمص واللاذقية، هكذا يتوقع المتابعون لما يجري في سورية بعد رصد موجات الغرباء الذي ينقلون الموت أينما حلوا.
مئات الآلاف استقدموهم من إيران، ونقلت كل من قدم إليها أو أكثر ممن فروا من بلادهم من أفغانستان، وانتقلت قبيلة هرات من غرب أفغانستان إلى «الزينبية» في دمشق مروراً بأماكن تجمعهم في معسكرات قم وطهران، وغداً أو بعد غد نسمع لغطاً وأحاديث عن مرقد السيدة زينب، وعند المراقد الأخرى التي يقيمونها ويخترعونها في سوريا، من يتحدث بالفارسية وبلهجات أفغانية، تختلط باللهجات اللبنانية والعراقية، ولا نستبعد أن نسمع لهجات قوقازية وشيشانية وروسية، بل وحتى كلاماً باللغة البرتغالية، فالجنود الكوبيون الذين يستعين بهم بشار الأسد قد وصلوا إلى سوريا، وهم حتماً سيختلطون مع الجنود الروس، والحراس الثوريين الإيرانيين ومليشيات لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان والشيشان، ليتكون في سوريا خليطٌ من الغرباء، فيما يُواصل أهل سوريا رحلة التوهان والغربة.