د.عبد الرحمن الحبيب
ربما أنت كغالبية الناس تكتب يومياً رسائل نصية في وسائل التواصل الإلكترونية، فالمنطقي هو أن مهارتك الكتابية تتحسن؛ لكن انتبه، فأحدث بحث استطلاع لخريجي الجامعات تقول شيئاً آخر: أرباب العمل يشكون بأن أهم المهارات الحاسمة للتوظيف التي يفتقر إليها الخريجون الجدد هي: الكتابة!
فأين ذهبت الصعوبات في الرياضيات والعلوم؟ توضح نتائج الدراسة أن أكبر الصعوبات التي يواجهها الخريجون في أمريكا الذين يقدِّمون للعمل عام 2015، هي: الكتابة (29 في المئة) خاصة القواعد اللغوية والإملاء.. ثم القراءة (11 في المئة) فمهارة التحدث (9 في المئة)، بينما الشكوى من الضعف في الرياضيات كانت 8 في المئة وفي العلوم 4 في المئة فقط.. وفقاً لبحث استطلاع شامل أعدته مؤخراً جمعية إدارة الموارد البشرية الأمريكية، مؤكِّداً أن مهارة الكتابة صارت أضعف مما كانت عليه لخريجي الجامعات. المتهم هو استخدام وسائل الإعلام الاجتماعي.
إذا افترضنا صحة هذه النتائج، فلماذا يُضعف استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة القدرة على الكتابة بطريقة مهنية، وليس العكس؟ لم يجب البحث عن ذلك، إنما الإجابات مختلفة.. ربما بسبب الكتابة الارتجالية التي تعوَّد عليها هؤلاء في تلك الوسائل، فهم اعتادوا الكتابة بمزاجهم دون قيد منهجي. هذا التأثير قد يمتد حتى لمحترفي الكتابة.. قال لي أحد الكتاب الأصدقاء: صار تويتر يربك أسلوب كتابتي الاحترافية، ففيه تعودت الكتابة «على الطاير» كيفما اتفق السياق الذي لا يخلو من انفعال وابتسار للمعلومات والأفكار. يشابه ذلك ما ذكرته فيل غاردنر، مديرة معهد أبحاث الوظائف في جامعة ميشيغن بأمريكا: تتميز وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية بأنها مبتسرة، وغير سليمة تهمل معايير الكتابة المهنية؛ فهناك بروتوكولات يجب أن يراعيها خريجو الجامعات الجدد، وهم يفتقرون الخبرة فيها.
لكن كيف نوفق بين ذلك وما اعتدنا عليه من أبحاث تقول العكس؟ غالبية الأبحاث المسحية السابقة تركز على أقوال المعلمين بينما الدراسة الأخيرة تركز على الواقع الفعلي: سوق العمل. على سبيل المثال يقول رود أدامز، مسؤول التوظيف في إحدى المؤسسات الكبرى بأمريكا: «ليس المهم هو إيصال المعلومات والأرقام، ولكن المهم أيضاً القدرة على إيصال رسالتك وفكرتك وإقناع الناس بها..» (آن نغوين، بي بي سي). هذا يذكرنا بما قاله المفكر الفرنسي بوديريار منذ سنين: «نحن نعيش في عالم حيث المعلومات أكثر فأكثر، والمعاني أقل فأقل.» فرغم أن وسائل الاتصال الإلكترونية تمنح مزيداً من المعلومات لكنها قد لا تمنح مزيداً من المهارة في إيصال الأفكار والمعاني حول هذه المعلومات أو حتى فهمها..
ولمزيد من إيضاح مبررات التناقض بين نتيجة الدراسة الأخيرة وبقية الأبحاث ما وصلت إليه دراسة (مجلة ساينس، 2009) من أن الإنترنت يزيد من مهارة القراءة والكتابة، لكنه يعوق بعض المهارات الأخرى مثل التفكير الناقد وحل المشكلات الواقعية. كما أظهر مسح لمركز بيو للأبحاث (2013) أن تقنيات التواصل الإلكترونية تسهل التعبير عن الشخصية لدى المراهقين والإبداع، وتوسيع الجمهور المتلقي لكتاباتهم، وتشجيعهم على الكتابة أكثر من السابق. إنما في الوقت نفسه، فإنها توجِد صعوبات فريدة في تعلم الكتابة بما في ذلك «تغلغل» نمط غير رسمي في كتابة الواجبات الرسمية، والحاجة إلى تثقيف الطلاب حول المهنية في الكتابة..
كما أظهرت الأبحاث (ريدنج هورزون 2010) أن الإنترنت يوفر منافذ لا محدودة إلى صفحات أخرى، مما يجعل من الصعب علينا أن نركز في قطعة واحدة من المعلومات بوقت واحد. ويصف الخبراء هذه العادة من الاندفاع من صفحة لأخرى كالأفكار المتداعية. فقد لاحظوا هذه العادة خاصة لدى الأطفال، الذين هم نسبيا أقل تركيزاً في القراءة والكتابة عما كانت الفئة العمرية عند قياسها في الماضي. هذا يضر بالقدرة على القراءة لأنه يقلل من قدرتنا على فهم ما نقرأ.
لكن هناك علماء نفس يعارضون هذه النتيجة ذاكرين أن الشباب الصغار كانوا دائماً يواجهون صعوبة في التركيز، وبالتالي فإنَّ النتائج لا يمكن التعويل عليها. فمن الممكن أن التباين في النتائج بين الكبار والأطفال ليست نتيجة للإنترنت، بل نتيجة الفرق بين فئتين عمريتين لهما مرحلة مختلفة من تطور الدماغ.
هناك طريقة أخرى يعتقد الباحثون أن الإنترنت أثر في قدراتنا على التفكير النقدي، وهي أننا الآن نستخدم مصادر أقل موثوقية للتعرف على أفكار جديدة. وصرنا غالباً نقبل أي مقال كحقيقة. كما وجد الباحثون أن الطلاب صاروا يقومون ببحث أقل من السابق لإجابة الأسئلة. كما وجدوا أنهم يثقون بأصدقائهم أكثر من البالغين للحصول على إجابات. عزوا هذه العادة كنتيجة للاعتماد على الإنترنت، لكنه قد يكون ببساطة أن الصغار أكثر ثقة وأقل تشككاً.
«ما يفعله الإنترنت هو تحويل التركيز في ذكائنا، يبعدنا عمّا يمكن تسميته الذكاء التأملي ويقربنا نحو ما يمكن تسميته الذكاء النفعي. ثمن ضغطة زر بين الكثير من المعلومات هو فقدان العمق في تفكيرنا..» كما يقول نيكولا كار، مؤلف كتاب «التحول الكبير: تغيير الأسلاك الكهربائية بالعالم، من أديسون لجوجل». ويعترض ألكس هالافيس (نائب رئيس جمعية باحثين الإنترنت) على الزعم من أن الإنترنت يجعل الأطفال أقل ذكاء، بل «إنها تخلق قضايا جديدة للتعلم، بنفس الطريقة التي خلقتها فيها الطباعة الورقية قدرات ومعايير جديدة».
هل الإنترنت يحسن أم يضعف الذكاء؟ هذا السؤال الصعب حلته بطريقة ذكية لكن فضفاضة، ساندرا كيلي مديرة أبحاث السوق أم 3 كورب: «ذكاء شخص بالغ يمكن أن يتأثر كثيراً في أي من الاتجاهين من خلال قراءة أي شيء.. الأذكياء يستخدمون الإنترنت للأشياء الذكية والأغبياء يستخدمونه لأشياء غبية، بنفس الطريقة التي يقرأ بها الأذكياء الأدب ويقرأ الأغبياء الروايات الحمقاء..».
هل تحسنت كتابتك أم ضعفت مع الإنترنت؟ أنت وحدك من يقرر! عندما تعتمد على الإنترنت لبناء مهاراتك فكِّر نقدياً وحاكِم النص.. تأكد من موثوقية المصادر.. وبين تدفق المعلومات ركز في جزئية موضوعك.. لا تستعجل، تأمل قليلاً ولا تنفعل كثيرا.. اقترب من الواقع الفعلي وليس الافتراضي.. كن منهجياً لا مزاجياً.. فإذا كانت المعلومات مسألة أساسية فإنَّ فهمها ثم القدرة على تفسيرها وإيضاحها أكثر أهمية في أرض الواقع ولاسيما سوق العمل.