د. عيد بن مسعود الجهني
التاريخ يحدثنا بلغة واضحة كيف تبرز إمبراطوريات وتنحى عن سباق القوة إمبراطوريات ودول أخرى.. والسبب الرئيس هو الصراعات والنزاعات والتوترات والصراعات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تهب على العالم بين زمن وآخر لتصبح كبرميل بارود.....
يشتعل (بقوة) يصعب إطفائه يزلزل معه الأمن والإستقرار وينذر بنشوب حروب كونية لا تبقي ولا تذر.
هذه إحدى مقدمات تلك الحروب المدمرة فمثلا الحرب الكونية الأولى كان لها مقدماتها وأجواؤها الكارثية، ففي عام 1908-1909 قامت الإمبراطورية النمساوية المجرية ضم البوسنة والهرسك إليها تلك التي كانت تابعة للدولة العثمانية ليمثل ذلك عاملا رئيسا لوقوع حرب البلقان الأولى 1912 - 1913 بين طرفيها إتحاد البلقان والدولة العثمانية وقد أنهت معاهدة لندن للسلام تلك الحرب التي كانت المسمار الأول في نعش الدولة العثمانية الضعيفة، وجاءت حرب البلقان الثانية عندما هاجمت بلغاريا صربيا واليونان في 16 يونيو 1913 لتزيد الطين بلة فيما يتعلق في الأمن والاستقرار في أوربا.
حرب البلقان تلك كانت تحولا كبيرا في ميزان القوى في القارة كلها وأصبحت كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا أكثر تقاربا عن ذي قبل وتراجع دور وقوة الدولة العثمانية، ولأن لكل حرب مسبباتها التي ذكرنا بعضها أعلاه، فإن الإمبراطورية النمساوية المجربة التي ضمت البوسنة والهرسك بالقوة إلى ممتلكاتها آنذاك، ذلك الضم (بالقوة) خلق كراهية وعداوة وحقد في صدور الصربيين ضد تلك الإمبراطورية، وما أن زار ولي عهد النمسا في 28 من شهر يونيو 1914 ومعه زوجته عاصمة البوسنة والهرسك (سراييفو) حتى ترصدهم أحد الطلبة المنتمين لتنظيم (اليد السوداء السرية) وقام بقتلهم، وسرعان ما تكون جسم الحرب الكونية الأولى 1414 - 1418 مما عرف بالوفاق الثلاثي بريطانيا، ايربلندا، فرنسا، روسيا، يقابله دول المركز، ألمانيا، النمسا، الدولة العثمانية، بلغاريا.
هذه الإمبراطوريات والدول أشعلت حربا ضروس في القارة الأوربية كلها راح ضحيتها أكثر من (9) ملايين مقاتل ولم ينطف لهيب تلك الحرب الكونية حتى غابت شمس إمبراطوريات ألمانيا، روسيا، النمسا، الإمبراطورية العثمانية، التي فازت بلقب الرجل المريض، فالحلفاء فازوا بالحرب لكن اعتراهم من الإرهاق ما اعتراهم، وأصبح واضحا لتلك الإمبراطوريات والدول ضرورة حفظ الأمن والسلام في العالم فجاء تأسيس عصبة الأمم.
لكن تلك المنظمة لم تصمد دوليا فالعالم كان على موعد مع الصراعات والنزاعات والضغائن والأحقاد التي خلفتها الحرب، فالألمان شعروا بالدونية والمهانة التي لحقت بهم فالانكسار في تلك الحرب المدمرة كان جرحا نازفا في الجسد الألماني، وشهد العالم الانهيار الاقتصادي العظيم 1929 - 1933، ولأن الألمان كانوا يحملون (قهرهم) فقد كانوا بقيادة النازي هتلر طامحين إلى حرب تعيد لهم (مكانتهم) بين الأمم الأوربية، وما جاء عام 1939 وتحديدا في شهر سبتمبر من ذلك العام حتى غزت ألمانيا جارتها بولندا لتعويض هزائمها واستسلامها في الحرب الكونية الأولى.
هذه البداية الكارثية تكون بسببها محورا قادته ألمانيا واليابان وإيطاليا ومحورا آخر تكون من كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، لتستمر الحرب المدمرة أربع سنوات (1914 - 1918) وهلك في تلك الحرب أكثر من (55) مليون إنسان، ومع صمت أزيز طائرات وصواريخ ودبابات وبوارج الحرب سارع المجتمع الدولي لتأسيس منظمة الأمم المتحدة بهدف حفظ الأمن والسلام الدوليين، وتكون مجلس الأمن ليعطي خمس دول (أمريكا - بريطانيا - روسيا - فرنسا - الصين ) حق النقض (الفيتو).
وإذا كانت عصبة الأمم التي تأسست بعد أن حطت الحرب الكونية أوزارها، وثبت عدم قدرتها على حفظ الأمن والاستقرار ومنع سباق التسلح والتحالفات الدولية، فإن الأمم المتحدة التي يشلها (فيتو) واحد من الأعضاء الخمسة الممثلين في مجلس أمنها، لم يكن أداؤها ولا يزال ذا أثر خاصة بالنسبة لدول العالم الثالث والقضايا المصيرية والتحالفات أصبحت في عالمنا المعاصر أكثر وضوحا منها ذي قبل في عالم العلاقات الدولية بل وفي الصراعات والحروب، أمريكا ومعها حلفاؤها وروسيا والصين ولهما حلفاؤهم.
الضحية دول العالم الثالث خاصة بعض الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، أمريكا صاحبة (الفيتو) البغيض وقفت حجر عثرة في وجه حل القضية الفلسطينية على مدى عقود طويلة وبذا ينتفي اصطلاح أن الأمم المتحدة في أول مادة في ميثاقها ترسيخها للأمن والاستقرار والسلام في العالم، وكل ما تشهده القضية الفلسطينية والقدس الشريف من قبل وتدمير وتشريد وتهجير وجرائم بشعة يرتكبها الجزار نتنياهو وزمرته هو أمر مقبول لدى كل الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي اعترفت بتأسيس إسرائيل على أرض العرب بعد (11) دقيقة من إعلان الأمم المتحدة لذلك التأسيس البغيض.
ولذا فإن المنظمات مهما كانت قوة ميثاقها فإنها تبقى مكتوفة الأيدي أمام تعنت الدول الكبرى، كما أن جامعتنا العربية التي تأسست قبل الأمم المتحدة بحوالي (6) أشهر لم تفعل شيئا لقضايانا العربية إذا إستثنينا المواقف التي قادتها المملكة في عام 1956، 1967، 1973، أثر العدوان الصهيوني - البريطاني - الفرنسي - الأمريكي على الشقيقة مصر، والعدوان العراقي الغادر على الشقيقة الكويت 1990، ومبادرة السلام العربية في مؤتمر بيروت 2002م.
السؤال المطروح اليوم هل نحن في هذا العالم المضطرب بعد الحروب المدمرة في القرن المنصرم 1914، 1918، 1939، 1945 نعيش في مشهد مشابه للأجواء التي سبقت تلك الحربين سيئتي الصيت، حقيقة الأمر أن العالم يشهد مسرحا واسعا من سباق التسلح المحموم في قوة الردع النووي مثلا يأتي بعد روسيا وأمريكا، الصين تليها فرنسا ثم الدولة العبرية ثم بريطانيا، وهناك دولا نووية، الهند وباكستان وكوريا الشمالية، وطهران رغم اتفاقية ملفها النووي فإنها ساعية لا محالة في هدفها وأول (خرق) صريح لإتفاقية ملفها النووي أغضب اوباما هو تجربتها الصاروخية البالستية رغم أنف الغرب.
ثم الصراعات والحروب في منطقة الشرق الأوسط العراق أصبح مسرحا للصراعات والحروب الأهلية بعد رحيل القوات الأمريكية عام 2011، أصبحت الساحة مفتوحة على مصراعيها في ذلك البلد العربي الذي كان شوكة في نحر ملالي طهران، اليوم تطوق عنقه طهران ورؤساء الوزارات من الشيعة يتدخل خامنئي في تعيينهم حتى أن المالكي الذي إستولى ومن معه على حوالي ترليون دولار من ثروات العراق النفطية وغيرها عندما نحى كانت وجهته طهران، والأمر في بلاد الشام التي ارتبطت بحلف روسي إيراني عراقي سوري وضعها لا يسر عدوا ولا صديقا فهي تدار إيرانيا وروسيا وأصبحت أرض وسماء ذلك البلد محتلة روسيا وإيرانيا ومعهم حزب الشيطان، وماما أمريكا وقعت مذكرة تفاهم الثلاثاء الماضي مع بوتن لتفادي صراع جوي فوق سماء سوريا بين القوتين النوويتين، ولم يكذب خبرا مجرم سوريا فقد تزامن وصوله إلى كبيره بوتن في نفس اليوم، ليحتفل الجميع في مذبحة الشعب السوري الذي تعاون عليه الروس بأسلحتهم الفتاكة من البحر والجو والأرض وطهران بقوتها العسكرية وجنودها على الأرض ومعهم حزب الشيطان بكل قواته وانضم إليهم شيعة العراق لقتل السنة الذين هجر منهم بالداخل (9) ملايين، والملايين على الحدود في الأردن ولبنان وتركيا، ويشاهد المجتمع الدولي (عديم الضمير) مئات الآلاف من الأطفال والنساء وكبار السن وغيرهم يشقون بطون البحار هاربين إلى أوربا من جحيم المعارك التي خلفت أكثر من 250 ألف قتيل ومئات الآلاف من الجرحى والمعاقين، لتبقى سوريا وأهلها عاهة في جبين المجتمع العربي والدولي سيكتبها التاريخ بأحرف من دماء السوريين.
ولا يختلف الحال في ليبيا التي حكمها القذافي لأكثر من أربعة عقود وتركها دولة فاشلة تسبح في بحر لجي من النزاعات والحروب الداخلية، ولا يملك المجتمع الدولي سوى لعب دور المتفرج، أما اليمن فإن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز تبنى قرارا تاريخيا وإستراتيجيا في الوقت والزمن المناسبين فكان القرار الشهير الذي كون تحالفا عربيا تقوده المملكة لإنقاذ اليمن من براثين الإيرانيين وعلي صالح المخلوع والحوثيين الإرهابيين، وسيبقى مجالا خصبا للدراسة والبحث العلمي والإستراتيجية فهو (القرار) القوة تحد القوة قطع على هؤلاء المتآمرين الطريق إلى غير رجعة ليعيد الأمل إلى اليمن وأهله الطيبين الأكارم.
وإذا كانت هذه أمثلة لبعض ما يدور في المشهد العربي فإن المشهد العالمي يغلي (كالمرجل) الدب الروسي الذي يترنح أمام عقوبات قاسية مفروضة عليه واقتصاد مترد وعملة منهارة وأسعار نفط متدنية باغت العالم ليغزوا جارته أوكرانيا التي كانت يوما تسير في فلكه، وترسانتها النووية ألحقت ببلاده سابقا، ولم يكتفي بذلك الصيد، فاتجه بعيدا إلى الصيد أثمن بلاد الشام وأمريكا وأوربا المنادية بالسلام والعدل ودعمهما لم يتعدى إدانتهما الشجب والإستنكار لأن هذه الدول الكبرى ترى في ذلك الهجوم الروسي من البحر والجو وعلى الأرض فيه ضمانة لأمن وإستقرار الكيان الصهيوني الذي زرعته في قلب أمة العرب بريطانيا وتبنت الجنين أمريكا ودعمت قوته النووية فرنسا.
إذا المشهد العالمي في السياسة والعلاقات الدولية والإقتصاد والحملات العسكرية يمكن وصفه بأنه برميل بارود قد يشتعل يوما، وإذا كانت الحرب الكبرى الأولى شبت نيرانها عندما اغتيل ولي عهد النمسا المجرية وزوجته في صربيا، والحرب المدمرة الثانية ارتفع لهيبها بسبب شعور النازي هتلر بإهانة بلاده التي دحرت في الحرب الأولى وقسيت عليها اتفاقية السلام التي جاء بها مؤتمر باريس عام 1919 كما ان معاهدة فرساي كانت غير مرضية لألمانيا فنهض ليشعل حربا كونية أكبر، ليجعل القرن العشرين يكتوي بنار حربين عالميتين مدمرتين لتمتد آثارهما الكارثية في كل قارات الكرة الأرضية.
وإذا كانت تلك الحروب الكبرى التي كانت أحداثها في القرن العشرين أقسى الحروب والكوارث البشرية التي عرفها الجنس البشري وانتهت تلك الحروب لتسقط إمبراطوريات وتقوم أخرى، فإن العالم اليوم إذا ما نشبت حروبا مدمرة - لا سمح الله - فإن مسار التاريخ كله سيتغير شرقا وغربا شمالا وجنوبا، مع انتشار أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الإستراتيجية والجرثومية والكيمائية.. الخ.
ولا يوقف الحروب إلا الجنوح إلى السلام والعدل كما جاء في ميثاق الأمم المتحدة وتطبيق القانون الدولي والأعراف الدولية والمعاهدات خاصة إتفاقيات جنيف الأربع، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى كما تفعل إيران وروسيا والدول الكبرى، وحل المنازعات بالطرق السلمية، وسلوك جادة الحوار البناء فهو البوصلة السرية التي تنير الطريق أمام العقلاء والحكماء ولتجنب العالم ويلات نزاعات وصراعات وتوترات ومؤامرات وحروب مدمرة وكما نرى في بعض ديار العرب نيران تشتعل أو وميض نار تحت الرماد ينفث فيه أعداؤنا أنفاسهم النتنة ليستمر وتعلو ألسنة اللهب!!
والله ولي التوفيق