د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
أتمنى أن يعذرني شاعرنا «البدر» حين نصّبتُ طفلته الأنيقة التي بلّلها المطر عنوانًا للمقال، حيث جذبني أنها تختال رونقًا وجمالاً وهي تمشي تحت المطر؛ إلا أن يكون المعنى في وجدان الشاعر، وإن كنتُ سوف أطرق شأنًا آخر هو رؤيتي حول تعليق الدراسة لدواعي حماية من يمشون تحت المطر؟! أو كما هو في نصوص التنظيم من أجل الاحتراز من سوء الأحوال الجوية التي تتوسد الأمطار عروضها،
فقد أصبح المطر طارقًا تُغلق دونه نوافذ الخصب والنماء المعرفي خلاف ما هو معتاد عن أمنيات الناس حوله قال تعالى: {وَتَرَى الأرض هَامِدَة فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (سورة فصلت 39)، ومن الأوصاف الجميلة أيضًا.
عهاد الغيث منهمرا سكوبا
مُلثّا يهضب الربع الحبيبا
تغاديه السحائب مدجنات
ويمنح طيبه المعهود طيبا
وأرجو ألا أصل في رؤيتي عن الفقد المعرفي إلى مرحلة السذاجة التي قد يُصاب بها معلم الصبيان فلا تُقبل شهادته كما يُروى على لسان الإمام الغزالي -رحمه الله-، وإن لم يكن هناك فرق لكني أؤمن أن البشر عادة ما يستمرون بتلك الروح المقاومة؛ وأعلم أن تعليق الدراسة مستراد أمني له قراراته ودوائره المختصة، إلا أنه تحيطني روح نافرة عندما تتوالى أنباء تعليق الدراسة منذ سنوات في مثل هذه الظروف والأوقات، حتى أن هناك من دغدغ أحاسيس الناس حول الموضوع عندما أنشأ حسابًا على أحد مواقع التواصل الاجتماعي واسعة الانتشار باسم (وكالة تعليق الدراسة)؟!! وذلك الحساب رغم عدم تبعيته لجهة رسمية إلا أن مرتاديه يتنامون مع صوت الرعد، ويلمعون مع وميض البرق، ويتحسسون مساقط الغيث ليرصدوا التوقعات كما رصدها غيرهم، ومن العجيب أن ذلك الحساب يسعدُ ويبتهج عندما يرصد أخبارًا عن خواء المدارس، وهو ما يحاط بفضاءات المعرفة، وكأن ذلك التوقف سياسة تفردت بها فلسفتنا تجاه محددات ومنطلقات تنفيذ عمليات التعليم والتعلم، كما أن اختزال وقت التدريس ثلم في مستوياته التي تبُنى عليها محتويات المعرفة المكوّنة للحصيلة لدى المتعلمين.
فإذا ما كان تعليق الدراسة واختزال أوقات التدريس حليفًا قويًا لثقافة الهروب من المدارس التي هي حتمًا نتيجة في مقامها الأول للرغبة في النأي عن ذلك المحيط، والبحث عن أسباب مشرعة لذلك، فقد أتت قرارات تعليق الدراسة صانعًا ومكافئًا لكل ذلك، ونتساءل كيف يسعى القائمون على صناعة المناهج إلى مستويات من التوسع تستهدف حشد المهارات والتطبيقات التي يجب أن ينفذها الطلاب عندما ينجزون تعلم المادة الدراسية في مستويات التأسيس الأولى؟! وهنا أكاد أربط بين توالي إجراء تعليق الدراسة والاحتفاء بها قرارًا ونتيجة وبين غياب النمذجة الجيدة التي يجب أن تقدم إعلامياً في مجال التعليم، فعندما غاب المعلم الممتاز ظهر من يشجع الطلاب على التواري أيامًا عن المعرفة، وعندما غاب الطالب المثالي ظهر من يخرج حين يتراكم الغيم حاسرًا ليس بينه وبين السماء حجاب ليبتهل إلى الله أن تحيط الوديان بمدرسته، وأن تغلق الدروب إليها، وأصبحت مبررات تعليق الدراسة قلائد المنظرين الذين يحسنون تعرية واقع المدارس، ويوقعون على حتمية نزع صمامات الأمان منها حين المطر، وخلال وجود الطلاب؟! وما دون ذلك فلم تسجل أي انهيارات لمبانٍ قائمة والأمطار ترميها بالمنجنيق؟!! والمهم أن الواقع يريد تسوية وصلحًا بين تلك القرارات وبين متطلبات التعلم، ولعلنا لا نكون مبالغين حين نرى أن تحويل المشاهد والأجواء الماطرة إلى سخرية من الحياة الجادة هو إمعان في قلب الأوضاع لأن الناس يبصرون ببصائرهم لا بمشاعرهم، ولا بد للقرارات أن تقف بصلابة على تخوم الواقع، والواقع يُنبي أن هناك احتفالاً بالغياب عن المدارس حين تعليق الدراسة، واحتفالاً آخر بالأمطار يتم وفق طقوس البيئة المحيطة.
ولأن الخطة الدراسية مغامرة يرتادها الشجاع من المعلمين، ويستكشف حساباتها ثم يسلك بالطلاب الطريق المضيء فإن فقد شيء من وقت المغامرة فقد للذة المسير في ذلك الطريق المضيء.
ولعلنا بعد ذلك نعي أنه يجب أن نتحول من الرأي الجاف إلى الرؤية النافذة العابرة حين يكون النظام منصفًا وصالحًا، فتعليق الدراسة شأن أمني وطني هدفه سامٍ وأثير وهو حماية الأرواح لما قد تسببه أحوال الطقس الطارئة، ولكن ألا يكون للمؤسسة التعليمية المباشرة وقفات عند سنّ النظام وآليات التنفيذ، ومن ذلك تعويض الأيام المفقودة من الخطة الدراسية بدوام مقدارها من أيام الاجارة في ذات الأسبوع، ومن الخيارات أيضًا التعويض بساعات إضافية في نهاية اليوم الدراسي ويكون ذلك ملزمًا في كافة الأحوال والظروف.
أما على النطاق التخطيطي «فليت للبراق عينا» حيث إن كثيرًا من النطاقات والمواقع خارج دوائر الخطورة في البنى التحتية أو وفق مواقعها الجغرافية الآمنة، وكما أن وجود مخارج الطوارئ ملزم لكل منشأة وفق تعليمات الجهات المختصة بالدولة، فلا بد أن يكون هناك مسارات بديلة للطوارئ ليتمكن الطلاب ومنسوبو المدارس من الوصول إلى مواقعهم خلالها، وهذا الإجراء يكون تنسيقيًا بين التعليم وجهات الاختصاص بإعداد مسبق، فإذا ما تعلقت الدراسة فتكون في الحدود غير الآمنة.
ومن اقتناص الإمكانات المشعة أن يتم الالتفات للاستفادة من خريطة البدائل التعليمية والمنصات الإلكترونية التي انتهجتها وزارة التعليم في إتمام عمليات التدريس في الحد الجنوبي الشامخ.
وحتى لا يبقى المشهد مفتوحًا لأن منافذ البيئات التعليمية الآمنة قد تكون شحيحة على الأقل في منظور الناس، فإن حدود الحل وملامح صنعه تبدأ من دوائر الأمن والسلامة في قطاعات التعليم التي يُحمد لها إن احدودبت على حماية أرواح منسوبي المدارس ولكن بقي اليقين المدرسي خاملاً في العقول إلا من رحم ربي.
مثل فرنسي للتأمل..
«الغائبون دائمًا على خطأ».