سلمان بن محمد العُمري
لدي قناعة تامّة بأنّ الذي لا خير فيه لوالديه لا خير فيه للناس، حتى وإن أظهر للآخرين لطافته وحسن تعامله، وقيامه بأعمال وخدمات متعدّدة، وهو مع والديه مقصّر أو عاق أو معنف!!
والوفاء مع الوالدين ليس له مثيل على وجه الإطلاق، فما بالك بالعقوق والهجران والإيذاء. والعقوق مع الوالدين جعله الإسلام كبرى الكبائر بعد الشرك بالله؛ إذ يرتبط الإيمان الصادق بالله - عز وجل - ببر الوالدين، يقول تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاه وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. إما يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أو كِلاهما فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. ويقول تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْه إِحْسَانًا}. وكثيرة هي الآيات القرآنية والأحاديث النّبويّة الشريفة التي تحث على بر الوالدين، وتتوعّد من يقوم بالعقوق.
وفي دراسة أمنيّة، تناولت ظاهرة العنف الأسري في منطقة المدينة المنورة، قام بها الباحث نايف المرواني، كشفت أنّ حالات العنف الأسري تتنوّع في أشكالها، وسجّل عقوق الوالدين أعلى نسبة من إجمالي الحالات، أي بواقع 61 حالة من أصل 176 حالة.
والعقوق حالة مزرية، يصل إليها بعض البشر؛ فتحيلهم لبشر بمواصفات غير إنسانية، بمعنى بشر بالشكل!! أما العقل والفكر والعمل فلا. إن العقوق يشتمل على حالة من النّكران لأفضال وأتعاب الوالدين، وهي لا تعد ولا تحصى.
والعقوق من أشنع الصّفات والبلايا التي قد تلم بالإنسان، وقد حار في أسبابها العديدة علماء الدّين والاجتماع وحتّى علماء النفس؛ فمنهم من يقول إنها تعود لنشأة العاق نفسه، على أنّه تربّى على شيء منها في حياته؛ فربّما يكون قد رأى جفاءً من أبيه لجدّه أو جدّته، وربّما يكون قد عانى المصائب بسبب والديه. كما أنّ بعضهم قد يصاب بالعقوق بسبب ما يخالطهم من أصدقاء السّوء ورفاق الشّر؛ فيتعلّم منهم من العادات قبيحها، ومن السلوكيّات بغيضها. وبعضهم تلصق به هذه الرزية بسبب زوجة لا تعرف للطاعة سبيلاً؛ فتحرّضه على الابتعاد عن أمّه وأبيه، وقد تحثّه على جحود فضائلهما ومعاملتهما بقسوة. كما أنّ من أسباب العقوق بعض ما أتت به تقنيات العصر وحضارته المزيّفة، وأقصد بها تلك الأفكار الغريبة والعادات المستهجنة التي أتتنا من وراء البحار؛ فهناك يحتقرون ولا يهتمّون بذويهم، وقد يتعلّم أبناؤنا منهم بعض ذلك مما يدمي القلب، ويذرف الدّمع مما يسمعه المرء من قصص وحكايات في المجتمع من عقوق فاضح لأبناء تجاه والديهم.
من الأخبار غير السارة والمؤلمة التي تنشرها بعض الصحف، وتتناقلها وسائط التواصل الاجتماعي التقني، الأخبار المزعجة عن اعتداء الأبناء على والديهم، ليس قولاً ولا رفساً ولا ركلاً - والعياذ بالله - بل قتلاً وحرقاً، وبطريقة انتقامية بشعة، تشمئز منها النفوس، وتضيق منها الصدور. وقد استقبلت محاكم المملكة خلال العام الماضي وبداية العام الحالي (377) دعوى عقوق، قدّمها أمهات وآباء، يشكون بناتهم وأبناءهم. وهذه الدعاوى بكل تأكيد ليست هي الحصر الكامل لهذه المشكلة؛ لأن بعض الآباء يريد الستر على نفسه وآل بيته. وصنف آخر - وهم كثير - يصبر ويحتسب؛ لأن العاق ابنه وفلذة كبده؛ ولا يريد قطع هذا الجزء من كبده، ولكن الأبناء - كما قيل فـي الأمثال - «قلبي على ولدي انفطر وقلب ولدي علي حجر». أقول: إن هذه الأرقام ليست المحصلة النهائية؛ ومن المؤكد أن العدد أضعاف ما أُعلن، لكن هذا هو عدد من تقدم وبلّغ عن المشكلة التي يعانيها من عقوق ابنه، وهي - بلا شك - تختلف من الاعتداء اللفظي والفعلي إلى الحرمان والهجر وخلافه. ولم يقف الأمر عند هذا الفصل بل تعدى ذلك إلى قيام عدد من الأبناء برفع قضايا حجر على آبائهم، وهي صورة من صور العقوق - مع الأسف - حينما تكون بعض المطامع المادية سبباً فـي طلب الحجر على الآباء!!
إن من المؤسف والمزعج أن نسمع ونقرأ عن أخبار العقوق، فكيف بالاعتداء والإيذاء وإزهاق أرواح الوالدين؟ وإذا كانت الإساءة إليهما قولاً وعملاً كبيرة من الكبائر فكيف تقبل النفس المسلمة إيقاعها، ومع من؟ مع الأب والأم اللذين هما جنة ونار الإنسان كما قال ــ عليه الصلاة والسلام ـ حينما سُئل: ما حق الوالدين على ولدهما؟ فقال للسائل: «هما جنتك ونارك».
والهداية من الله تعالى - بلا شك - ولكن بعض الآباء والأمهات يجنون ثمرة سوء التربية لأبنائهم؛ فعدم إحسان التربية، وعدم مساعدتهم فـي اختيار الصحبة الصالحة، وعدم الدعاء بالبركة لهم والإنفاق عليهم بنفس طيبة، ومن مأكل طيب، ربما كان سبباً فـي ظهور بعض الحالات السلبية وهذه الكبائر والمصائب التي يشيب الرأس من سماعها وقراءة أخبارها. والله إنه لأمر محزن وموجع؛ فعقوق الوالدين من كبرى الكبائر، وجريمة كبيرة، وسيئة عظيمة، عقوبتها منتظرة من رب العالمين في الدنيا والآخرة. ويكفي من ذلك الحديث الذي يقول: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان».
وأعود وأقول: إن على الآباء أن يكونوا عوناً لأبنائهم على البر بهم، وصلتهم، وعدم عقوقهم، وذلك بالبعد عن المسببات والبواعث للخلق غير الحسن، فلا إفراط ولا تفريط، ويجب البعد عن اللين المفرط والقسوة المفرطة أيضاً.
إن من سمات مجتمعاتنا الإسلامية التي يحث عليها الدين الحنيف التواصل والبر والاحترام للوالدين.. ولكن - مع الأسف - أصبح لدينا حالات سيئة، تضاهي الغرب فـي ماديته وعقوقه فـي هجر الوالدين وقطيعتهما، وعدم البر بهما، وتركهما فـي الملاجئ والأربطة، أو بمفردهما فـي منازل مع الخدم. وتعدى ذلك - مع الأسف - إلى المطالبة بالحجر عليهما قولاً وعملاً. والإساءة إليهما بدلاً من الإحسان إليهما هو عمل ذميم وخلق سيئ، تأباه كل فطرة سوية. فإذا كان من الجميل والواجب الإحسان بالمعروف لمن أسدى إليك جميلاً فإن من أوجب الواجبات المستحقة لرد الجميل هما الأم والأب. فنسأل الله العافـية والهداية لشبابنا، وأن يصلح أحوال الجميع.