سعد البواردي
286 صفحة من القطع المتوسط
إنه شاعر سوريا الكبير وأحد رموز في عالمنا العربي الذي أثرى بعطائه مساحة الحلم بمقدرة فائقة.. وبنكهة تاريخية مميزة أمكن لها أن تسبر غور ما يتطلع إليه الإنسان من قراءة تجسد له تاريخ الماضي بأبعاده المختلفة وعبر دائرة محكومة بالصدق والتجرد.. والتمرد على بعض جوانب ضعفه..
لتقرأ معه قراءته للتاريخ كما رصدها قلمه.. وكما أملتها مشاعره الجيّاشة:
وأي فجر من «الجزيرة» عنوانه الذي بدأ به ديوانه:
لفتة يا خيال نستلهم الماضي
ونسكر على صدى التذكار
لفتة.. نشهد الجزيرة نشوى
من سلافة الرسالة المعطار
تترامى صارماً.. وقلوبا
في يدي عبقريها الجبار
وحواليه من صناديد بدر
حفنة تستعد للإعصار
كان حديثه عن الماضي يوم أن كان للعرب صوت يقظة يواجه إعصار الأحداث التي عصفت بإنسان اليوم..
يقول عن حلب الشهباء يوم أن كانت آمنة تجدل شعر شبابها وقبل أن تدكها القذائف الشهب:
قد عرفت الدين إعصاراً سنيا
وانطلاقاً يسرج الشهب مطيا
وهتافاً من فم المجد سخيا
فجَّر الدنيا ضياء عربيا
وكأنما كان يخشى على مدينته غائلة الزمن استدرك قائلاً:
وشهيداً يرتمي إثر شهيد
ودما يمتد جسراً للخلود
وعرفناه ويا أمجاد غيبي
ذلة نحملها دون الشعوب
ورقابا سامحها سوط الغريب
صور الخزف فنامت للخطوب
لم يعد سوط غريب.. بل سياط قريب من أهلها تلهب الأجساد.. وتقوّض ما بناه التاريخ من أمجاد
كان هنا.. تغنى بجغرافيته وديموغرافيته العربية بعنيزة.. بدار عبلة. بالصحراء. بالجياد العربية وبالفارس العربي الذي امتشق حسامه دفاعاً عن أرضه وعرضه لأنه منها. وفيها. وإليها ولها
أنا طفل هذه الأرض
أقدم في جذوري من قديم
غنيت أطفالي وغنوني
على شرف الغيوم
يسترجع ماضي التاريخ. عن فجر الجزيرة الذي أضاء للدنيا مسالكها المعتمة اجتزئ من قصيدته الطويلة بعض الدلالات:
افتحي يا سماء أحضانِك الخضر
وفتحي قوافل الأبرار
نحن من مهدوا طريقك للناس
وشقوا دجاكِ بالأنوار
أنشأتنا العلى فعشنا على السر
حِ. وتهنا في حومة المضمار
ويسترجع للمرة الثانية أحاسيسه الموجعة كمن يقرأ ما سوف تأتي به الأعوام القادمة..
ذاك عهد مضى كما تمرق الشهب
ويطوي لمح الخيال الساري
فقد الصقر في النضال جناحيه
وألوت به يد الأقدار
فعلى الأرض حيث سرت بقايا
من عبير.. ولفحة من منار
لعلها بقايا من عِبر ودروس مستفادة تمنحنا الآتي كي نبني ما هدمه المخربون من داخلنا..
وهو ما نشهده عبر ساحتنا العربية من صلف وعنف يرقى إلى درجة الجنون البشري.
وعن العيد وجراحة لا كان لشاعرنا العيسى هذا التساؤل الموجع:
أي عيد. والمآسي الداميات
حولنا يهتز منهن الرفات؟
امة قد سلبتْ من الحياة
فهي شكوى. وجِراح مفجعات
ويتذكر عيد فطره يوم أن كان له فرحة صيام.. وعيد سلام:
روعة الأفكار أن تتلو صياما
يخضب الدنيا إباء وذماما
عندما كنا يد تنضو الحساما
ويد تلقي إلى الله الزماما..
وما درى شاعرنا أن بيوت الله ومنابرها ومسلميها تحولت إلى أنقاض وإلى قتلى في شامنا الذبيح والجريح في عيد الأضحى المبارك!!
تماماً كما حاول الجاهلون الجاحدون هدم الكعبة المشرّفة
سنهدمها إذا؟! ورمى
بنظرته إلى الحرم
سنهدمها أجل.. صنما
أراحوه على صنم
وتصحو الكعبة السمراء
من أسطورة العدم
هكذا خيّل إليهم أن عصاهم الأذية قادرة أن تقهر قوة الله.. وأن لا تحمي بيته.. ولكن انقلب السحر على الساحر: فللبيت رب يحميه.. بقي البيت.. وانهزم العابثون..
وعلى لغتنا العربية الفصحى بلسانها يتحدث:
إذا تقطعت الأرحام بينكمو
إذا تراكمت الأسوار والحجب
إذا التمتْ في الدنيا هويتكم
وضاع خلف تخوم الفرقة النسب
فلا تخافوا. لكم صدر يضمكمو
ستلتقون على صدري أنا العرب
وما جمدت.. ولكن حقبته جمدت
فأطلقوني إلى الآتي. لي الغلب
لغة الضاد تعاني وتواجه حرباً ضروساً من أهلها ومن غير أهلها.. يريدون تدميرها بالإجهاز على ثقافتنا.. على لغتنا.. على تاريخنا. وعلى تراثنا.. الإعلام يلعب لعبته للإجاز علينا كي لا يبقى لنا صوت أصيل نعبر به عن هويتنا.. إنه غزو ثقافي دون الغزو العسكري..
شاعرنا شاقته خيمة بدوية تمر بها غيمة صحراوية هاربة، وكي أصدقكم الحديث الغيمة من عندي.. تغنى بها:
أطلق صهيلك هذا الرمل والطلل
هذي جذورك في عينيك تشتعل
يا دار عبلة إني دمعة طفرت
ورحت في شهقة الصحراء أرتحل
طفولتي في يدي أذرو براءتها
على الطريق فعمري مورق خضل
وتورق الخيمة الزرقاء أغنيتي
فاللحن بيني وبين الدهر متصل
ودِّع هريرة. لا. لن أودعها
ضج العناق صباح الأمس. والقبل
لعله أدري مني بلون الخيام.. ما أعرفه السواد. أو البياض. ويكمل أبياته بهذا البيت الرائع:
دعني على شرفات الرمل ادومي
أعين بقايا دمي بالرمل تغتسل..
الحب يأبى التفاصيل..والألوان.. شيء واحد يؤمن به نظرة المعين.. وخفقة القلب..
ابن ماجد الذي جاب البحار والمحيطات استكشافاً لعالم مجهول تحدث عنه شاعرنا سليمان العيسى:
على الزبد المجنون ظلك هائم
يروض لجاً بعد لج ويفخم
وتُنشد أشعار الشمس مفاخرا
وانت بقايا أمة تتحطم
تذيع على الدنيا بقية ومضها
فتلتقط الضوء البحارُ وتلهم
رويدك يا أسطورة اليم ما الذي
تبقى؟ وماذا عن عبابك نعلم؟
الكثير عن عبابه.. في حضوره وبعد غيابه تحدث.. وأفاض الحديث عن شواهده ومشاهده لا تحتاج إلى سؤال..
له مع نفسه وقفة تأمل لخصها في بيتين اثنين لا ثالث لهما:
أمدٌّ على السبعين ظل عباءتي
وأدرج طفلاً في الحواكير يلعب
ويعرفني عشب الحديقة كله
هو السر، عمر بالطفولة معشب
هكذا يرى العمر طفولة تمرح.. ورجولة تستقوي بعضلاتها، وشيخوخة تتوكأ على عكاز استعداداً لمرحلة الرحيل..
ولأنه عاشق لتاريخه.. والتاريخ زمان، ومكان، وإنسان، ولأن الوصول يمر عبر بوابة العنوان أي المكان ها هو يفتش:
أفتش عنها في ركام طفولتي
جداول شعر، ما لهن نضوب
تحاصرني حيناً طيوفاً ملحة
فتطفو على الأهداب ثم تغيب
منازل عاشت في دمي وسقيتها
نشيدي، ويدعوها دمي فتجيب
أليست المنازل أوطاناً.. وحب الوطن من الإيمان.. إن البحث عنها استحضار لذكريات طوت الأيام صفحتها علّه يستعيدها..
«نشوة» رؤية شاعر تطرح بعض سؤال:
لِِمَ ترحم الضعفاء من
وهمْ يهدهدهم قليلا؟
النشوة البكر التي
أحرقت فيها المستحيلا
هي فوق ما أعطوا
فعوَّضهم بها حلماً جميلا
يريد أن يقول لنا ازرعوا في كبد الضعيف مصل قوة يشعر بها في أمل أن يقوى ويتحول على حلم جميل.. امنحوه فسحة أمل.. ومسحة عطف ولطف.. إنها أمنية كأمنية تميم الذي تحدث عنها وأهداها للشاعر العربي القديم تميم بن مقبل:
يحتاج كل خلايا وقتك الضجر
تحاور الزمن المهدور تنكسر
تلوذ بالصوت يأتي عبر نافذة
ما زال يبحث عن أضيائها البشر
يا شاعري كنت في الأعماق أمنية
«ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرا»
بين أمسه المتألق، وبين يومه المتعوِّق حكاية لخصها شاعرنا في هذه الأبيات:
ويرفعها فارس الأرجوان
إلى قمة الألق الباهر
يقبل في بسمة سيفه
يضع على الثغر والباتر
ويصحو الجمال على أرضنا
فيعثر بالطلل الدائر
ويرجع في صدره غصة
وفي جفنه دمعة العابر
أقسى ما يمكن تحمله أن تعقب الهزيمة الانتصار وتلوّن صفحته بالسواد.. إنه يبحث عن رفيق سفر يشد من أزره.. ويؤانس وحدته ووحشته:
خذني معك..
إلى الشباب المنتشي بالشعر والغناء
وروعة الصباح والمساء
خذني معك..
إن الحياة وردة
وطفرة.. ولحظة
تمضي ولا تعود..
هكذا أدرك قيمة الحياة.. وسطوة الزمن.. إن الحياة كما قال عنها عمر الخيام في رباعياته:
لا تشغل البال بماضي الزمان
ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته
فليس في طبع الليالي الأمان
العمر لحظة.. والدهر يتحفز.. لا مكان للضياع.. الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.