عروبة المنيف
تراودني تساؤلات بين الفينة والأخرى بخصوص ذلك التخبط والصراع الدامي، الذي يجتاح منطقتنا العربية في محاولة لإيجاد إجابات تدعو للتفاؤل، من تلك الإجابات ما يتضمن تعزية النفس بأننا أقوام نمر بمرحلة تطهيرية سيتبعها الفرج بإذن الله وستنقشع تلك الغمامة السوداء التي تظلل سماء منطقتنا.وكلما حاولت بشتى الطرق التفكير بطريقة أكثر إيجابية وتفاؤلاً حتى يباغتني خبر جديد يفوق الخبر الذي سبقه تشاؤمًا وسوداوية لأعود وأكرر مقولة «طهور بإذن الله».
إن خبر حصار بلدة مضايا السورية الذي سمعنا عنه على حين غرة منذ أيام ونشرته غالبية وسائل الإعلام سواء العالمية أو العربية مع ما يتضمنه ذلك الخبر من صور مروّعة لمدنيين ماتوا جوعًا جراء الحصار وقد تحولوا إلى هياكل عظمية، هو أحد تلك الأخبار التي تباغتنا من حين لآخر وما تتضمنه تلك الأخبار من كوارث ابتلينا بها وندعو الله أن يكفينا شرها وبلاءها. لقد استمر ذلك الحصار لتلك البلدة الصغيرة الذي لا يتعدى عدد سكانها الـ42000 نسمة مدة السبعة أشهر من قبل قوات النظام الأسدي وقوات حزب الله إلى أن مات ما لا يقل عن ثلاثة وعشرين شخصًا من السكان جوعًا، فقد زرعت ميليشيات حزب الله المحاصر للبلدة ما لا يقل عن ستة آلاف لغم حولها وفي بساتينها ووضعت حواجز بشرية لمنع وصول المساعدات الإِنسانية إلى داخل البلدة من أجل الضغط على مقاتلي المعارضة المرابطين داخلها حتى يتوقفوا عن مقاومة الحزب مع العلم أن عدد المقاتلين لا يتجاوز خمسة وعشرين مقاتلاً وقد عرضوا الخروج ولكن النظام وأعضاء ميليشيا الحزب رفضوا ذلك، وكتبوا عبارة «إما الجوع أو الركوع» على مدخل المدينة.
عزلٌ يحاصرون ويموتون جوعًا منذ سبعة أشهر ولا ندري ولا نسمع عنهم إلا فجأة وبين ليلة وضحاها حيث طالعتنا جميع وسائل الإعلام على معاناتهم التي انفطرت لها القلوب!، كيف حصل التعتيم الإعلامي عن أولئك المنكوبين على الرغم من ضخامة الآلة الإعلامية العالميه؟، كيف حصل الصمت الدولي على تلك الجريمة البشعة كل تلك الشهور حتى أكل المحاصرون أوراق الشجر والعشب والقطط والكلاب؟!، أين هيئة الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة الدولية قبل تلك التغطية الإعلاميه؟! لقد سمح الحزب لهم بعد أيام من تلك التغطية بالدخول إلى البلدة المحاصرة وإنقاذ السكان وتقديم الإغاثة وتوزيع الإعانات، هل كانوا ينتظرون حدوث تلك الوفيات والكوارث ليعلنوا صرخات الاحتجاج؟.
عندما حوصر النبي محمد صلوات الله عليه من قبل كفار قبيلة قريش في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات حتى أكل المسلمون أوراق الشجر، لم يكن في ذلك الوقت هيئة أمم متحدة ولا وكالات إغاثة ولا مجتمع دولي بمنظماتة ولا آلة إعلامية كاشفة كما هو عليه الوضع الآن في القرن الواحد والعشرين، بل كانت قريش وأعيانها هم الفصل والحكم، وعلى الرغم من كل ذلك يستمر حصار سكان بلدة مضايا ما يقارب الأشهر السبعة المتواصلة ليموت سكانها جوعًا ومرضًا وقهرًا ولا نسمع عنهم إلا بين ليلة وضحاها ما جعل البعض يشكك في مدى صحة تلك الأخبار والصور المروعة المتداولة التي تناقلتها القنوات سواء العربية أو الأجنبية واعتبرتها خدعة مضللة تمارسها المعارضة من أجل التأثير على الرأي العام العربي والعالمي!. ولكن إن كانت تلك الصور والأخبار عن ذلك الحصار حقيقة واقعة فهي عار على المجتمع الدولي بأسره، بمنظماته وهيئاته ووكالاته وعار على الآلة الإعلامية برمتها التي عجزت عن الوصول للخبر وتغطيته منذ بداية الحصار من أجل إيصاله لهيئة الأمم المتحدة ولوكالات الإغاثة العالمية قبل أن تصل الكارثة إلى حد موت السكان المحاصرين بهذه الطريقة المخزية للعرب وللإنسانية كلها.
لقد عاصرت سوريا أبشع كارثة إِنسانية حلت على البشرية في العصر الحديث مع العجز الدولي في التدخل لإيقافها، فقد جرب السوريون جميع أشكال الموت، من البراميل المتفجره، للكيماوي، للغرق في عرض البحار ولم يبق سوى الحصار والموت جوعًا ليكتب التاريخ بحروف من دم عن مدى بشاعة الإنسان تجاه أخيه الإنسان من أجل حفنات تراب جئنا منها لنعود إليها.