عبدالحفيظ الشمري
يستقصي الكاتب تركي بن إبراهيم الماضي في تفاصيل سرده عبر مجموعته القصصية «الشبوط» يستقصي احتمالات العالم من حوله، فهو الذي يستهل صور السرد ومكونات الحكاية الشيقة ليجعلها، نموذجاً متقاربا بين الفن القصصي ورسالة الوعي الذي يتشكل من خلال مفردات الخطاب الإِنساني في كل موقف يسجله الشخوص، لينقله الراوي بكل تجرد ووضوح.
يستهل الماضي قصصه بإيماءة سردية تسجل حضور الأجيال في لمحة سريعة وامضة أي أن قصة «أطفال أمي» تكثف مشهد الحياة في تلاقي ثلاثة أجيال الأم وأبنائها وأحفادها، لتستمزج الحكاية هوية الزمان بين جيل صغير، وآخر - رغم هرمه - يشعر أنه لا يزال في مدارج الشباب، وعجوز مسنة تضوع حكمة وألفة وحب للأبناء، فيلتقط الكاتب وعلى لسان الراوي حكاية أو حكمة قديمة تؤكد أن أبناء الأبناء أي ـ الأحفاد ـ أغلى من الأبناء عند الجدة.. لكن ما تَلَمَّسَهُ الضمير المتأمل أنها نظرية معكوسة تماماً حينما بأن هلع الأم على ابنها من مضايقة أبنائه له في اللعب فوق كتفيه.
فالقصة الفاتحة لا شك أنها لحظة تدشين أولى لمفردات خطاب الوعي في قصص الماضي حينما يعمد إلى استنباط الفكرة كاملة غير منقوصة ليبني عليها معمار حَدَثِيّاً للحكاية تلو الأخرى.
ففي قصة «الشبوط» التي تحمل عنوان هذه المجموعة يصر الكاتب على اقتفاء حساسية الخطاب الإِنساني في حكاية الزمن القديم.. ذلك الذي ينهل منه وبتجرد محكم، ليصوغ من خلال هذه الرؤى إيجاز بليغ عن أحداث مضت، لكنها تفاصيل يسترجعها الراوي البطل من أجل أن يؤكد رؤيته في البناء الحياتي والإِنساني للشخوص الذين هم الآن يعيشون حياة أنضجتها التجارب وهدها عناء الحياة.
فقصة «الشبوط» تحمل ترنيمة المقاربة بين الإِنسان وما حوله من كائنات، حيث يستشعر الإِنسان هنا في حياة تتشكل أنه لا بد من مقارعة الحياة ومحاكاته، إِذْ يخلع الرجل زعيم القبيلة على ابنه الصَّغير اسم الشبوط تيمنا بطائر جارح ومشاكس وشرس رغم صغر حجمه، ليعقد حجم التلاقي بينهما فرصة أن يعيش هذا الفتى حياته مناضلا من أجل البقاء في بيئة تتشكل وتتحول لتصبح مع الزمن رمز من رموز التحدي ومقارعة اليأس والمصاعب.
وتتوالى القصص في هذه المجموعة على هذا النحو من استبطان المشهد الحياتي وتوظيف بعض صورة وإسقاطها من خلال لغة السرد على شخصيات وأحداث ومواقف لتكتمل في هذا السياق منظومة السرد الذي جاء في القصة الثالثة «السدرة» مندرجا في سياق اصطياد الفكرة الواقعية، حينما انتقى الماضي من قصص الراحلين شخصيتين مؤثرتين في حياته هما (عبد الرحمن العجلان، ومحمود خيري) يرحمهما الله.. فالأول يمثل علاقة البدايات وحياة الطفولة، والآخر في تفاصيل حياة الجهد والشقاء ومن ثم الرحيل المفاجئ لإِنسان ظل يمنِّي النفس بفأل جميل حتى داهمته النهاية ورحل إلى جوار ربه.
وفي نظرة عامة على العمل فإننا نلاحظ أن عناصر السرد في هذه القصص متكاملة.. يظهر فيها حيز الزمان بوضوح، أي أن القاص الماضي يستعيد تفاصيل ما كان.. ليؤسس الفكرة ويبني عليها ما تحمله من تحولات حياتية، ليصف للقارئ حجم إعجابه بالماضي ولا سيما الطفولة، لكنه سرعان ما يصدم القارئ في حالة الواقع في منتصف العمل الذي لا تدري أين ستلقي فيك نهاياته، ولحظات تنويره.. فيصبح الزمن في السرد مجالا واسعا يبني عليه الراوي الكثير من المشاهد.
أما حيز المكان فإنه محصور برؤية الحدث الذي يختطه الكاتب في مكان معين وواضح المعالم حتى ان تفاصيل النص تدور حول فكرة المكان الذي لا يمكن أن تخطئه العين؛ إذ يصور في كل قصة مشهد الحياة المناسب في المكان المناسب دون حاجة إلى مواراة أو ترميز أو إشارات.
بيئة النصوص في هذه المجموعة منتقاة بعناية وذات إطار محلي وبيئي ينهل من معين فرضية الحكاية الواقعية في حياتنا الاجتماعية التي لا يمكن أن توجد إلا في مجالها الحكائي الشيق.. أي أن الماضي حينما يقدم قصصه لا يضع فيها أي هامش للخيال أو الاحتمال إنما يجعلها رؤية سردية مكثفة تنهل من الواقع الحياتي، لتتكون من لغة ومفردات وخطابات إِنسانية خاصة لكنها ليست منغلقة على ذاتها إنما هي صور حيات يلتقطها برؤية بسيطة وغير متكلفة.
شخوص العمل في هذه القصص يسعون ومن خلال خطاب الراوي إلى تمثيل أدوارهم بكل عناية، ليكون هذا الراوي في أحايين كثيرة هو البطل، لكنه لا يتجاهل أو يقصي من حوله من شخوص؛ لنراه وقد صاغ من كل مشهد ملامح الإِنسان البسيط الذي يبحث عن خلاص من منغصاته بطرق مختلفة.. وهذا ما جعل القصص رشيقة في قوامها، وسلسة في وصولها إلى القارئ، ليضفر النص أمامه بمعادلة المتعة والفائدة؛ وهذا ما سعى إليه تركي الماضي في بناء هذه النصوص القصصية.
** ** **
إشارة:
- الشبوط (قصص قصيرة)
- تركي بن إبراهيم الماضي
- دار المفردات الرياض ـ 2015م
- المجموعة (120 صفحة) من القطع المتوسط
- لوحة الغلاف للفنان ماضي الماضي