ياسر حجازي
قال ابن فارس صاحب مقاييس اللغة وغيره من لغويّ اللغة العربيّة:
«تؤخذ اللغةُ سماعاً من الرواة الثقات»، وذهبوا إلى «أنّ اللغة لا تقاس»، وحدّدوا قبائل عدّة تؤخذ منها اللغة: (دلالات الكلمات)؛ وهم بذلك يقرّون ضمناً أنّ الصنعة القياسيّة ليست وعياً مسبقاً على اشتقاق الكلام ونشر دلالاته، إنّما مردّ الدلالة ما تعوّده وألفه الناس وذاع استخدامه وانتشاره، وأنّ الغلبة للسمع والتداول، وإن كان تتمّة جملة ابن فارس «..من الرواة والثقات» تتمّة خياليّة وصعبة التطبيق..
ولكن عدم وجود كتابات من الزمن الجاهلي وصدر الإسلام جعل النقل عبر الرواة هي الوسيلة المتوفّرة حينها في علوم شتّى إلى جانب الترجمة، علماً بأنّ واقع الحال الذي حدث: أنّ الدلالات دوّنت تبعاً لناقلين أحياءً كانوا يستخدمون هذا الكلام في هذه المواضع، وعلموا ما هجر من الكلام لهجرانه عن السمع والتداول، وثبّتوا اللفظ الحيّ بدلالاته المستخدمة والمفترضة والمجازية والمتحوّلة والأدبيّة، وما دلالة تحرّي الدلالات القديمة إلاّ إقرار بالتطوّر وإن أنكروه؛ وهذا ما يجعلنا نقف نقداً على ما يسمّى صحيح اللغة وأصول الدلالات النهائيّة دون الإشارة إلى زمانٍ ومكانٍ بعينه، فإنّ أبسط تتبع لدلالات مجموعة من الكلمات يكفي بحدّ ذاته لنقض اعتبار دلالات الكلمات ثابتة لم يسبقها تحوّل وتطوّر ولن يجري عليها تطوّر وتحوّل، وهو ما ينفيه شواهد واقع الحال في تطوّر دلالات اللغة.
المرجع في دلالات اللغة ترتبط باستخدامات الناس لها، فإن وضع الناس دلالة معيّنة لكلمة ما، فإنّك مهما حاولت إزاحة هذه الدلالة لإحلال دلالة سابقة تفترضها أنّها هي الأصل، فإنّك عاجز عن أيّ إنجاز في هذا الاتجاه، وحسبك تنتقد وتُخطِّئ وأنت على خطأ مبين. ذلك أنّ أبحاث علم الألسنيات واللغويات أقرّت اعتباطيّة نشوء اللغة ودلالتها على اختلاف نظريات نشوئها، وارتباط الوعي بتوظيف الصوت وتكراره كدلالة، وأنّ الأشياءَ بحالٍ من الأحوال لا تحمل ما يدلّ على مسمّاها؛ ولذلك فإنّ بديهياتِ علم اللغة وانتشار دلالاتها الاعتباطية حجّةٌ على خضوع اللغة لقوانين التطوّر الواقعة في الإنسان وتأثّره بتحوّلات وتطوّرات البيئة المحيطة به، وعلى ذلك كان تعدّد نطق الإنسان ووعيه في المسمّيات باختلاف اللغات واختلاف البيئات ثمّ التطوّر الواقع لهذه اللغات وبيئاتها.
وعلى الرغم من مرجعية الناس في اتّخاذ اللغة وعلميّة عدم ثبات اللغة وأصوليّتها، لكنك لا تعدم أن تجد جمعاً كبيراً من لغويي اللغة العربيّة غيورين عليها تحت تصوّرات أصوليّة فيما يخصّ ثبات دلالات الكلمة، وهم بذلك يخالفون قانونا في تطوّر لغة الإنسان تحت تأثير تصورات منقولة عن ثبات قالب الإنسان، وثبات الحقيقة، وتحت تأثير تصوّر فلسفي-ديني قديم يرى الدلالات والتصوّرات والأخلاق والمفاهيم نهائيّة ويسعى زمان بعد آخر للحافظ على القديم على دلالة أفضليّته عن الجديد، وهو منهج تقهقري انتهت فرادة تفسيره لحركة التاريخ ومساره منذ انقلاب المفاهيم الماديّة على المفاهيم المثالية، ورؤية التطوّر في قوانين المادة وحركة التاريخ على أفضليّة الجديد على القديم، وعلى مسارٍ لحركة التاريخ تصاعديّ تقدّمي عام.
وعودة إلى جوهر الموضوع، فإنّ ما يسمّى صحيح اللغة هو اجتهادُ جامعي المعاجم، وليس يقيناً أصل نشأة معنى الكلمة على الإطلاق؛ وكلّ أصلٍ لدلالات الكلام إنّما حسبه من علميّته -إن تمكّن منه جامع المعجم- أن يربطه بزمن انتشار الدلالة على دلالة أخرى، ودون ذلك فإنّك لا يمكن أن تقرّ نهائيّاً أنّ الكلمات جميعة انتشرت على هذه الدلالات المعجميّة في جميع الأزمنة التي تمّ بها تداول هذه اللغة أو تلك. وبالتالي فإنّ ما يسمّى بالأخطاء الشائعة يتجاهل قوانين تطوّر اللغة وتحوّل دلالاتها بعد فترة تدوين المعاجم، وهو بذلك يُثبّت أصلاً ثبّته المعجم وجامعه، ويتجاوز، بل، ويخطِّئ القانون الأساس للغة: أن معانيها وأصواتها نشأت اعتباطاً وليس من إثباتٍ ماديّ وعلميّ وعقلي على ثبات دلالات الكلام تحت تصوّر أصل ثابت للكلمة لا يتحوّل ولا يتغيّر في دلالته.
لذلك حينما تأخذ أصول اللغة على ما دوّنها الخليل في «العين» ثمّ ابن فارس في «مقاييس اللغة» وغيرهما، فأنت لا تستطيع أن تجزم أنّ هذه الأصول هي على ذات الدلالة التي ولدت عليها الدلالات اعتباطاً قبل مئات السنين على جمعها في معجم، لأن الإثبات المادي المتمثل بتتبّع اللغة ومعانيها منذ المخطوطات والرقع القديمة وحتى عصر جمع المعاجم يثبّت لك أنّ الدلالة لم تكن ثابتة، وليس من الصعب التثبّت على خضوع الدلالة لقانون التحوّل والتبدّل، واللغة للتوسع؛ لذلك فإنّ الأصل الذي يريد صاحب (بدعة الأخطاء الشائعة) أن يرجع إليه، هو أصل يحتمل أن يكون متحوّلاً من دلالة سابقة عليه وفقاً لقانون التطور والاعتباط وحتماً تحوّلَ إلى دلالة لاحقة عليه بدلالة شيوعها بين الناس ممّا استدعى اللغوي صاحب بدعة الأخطاء (الشائعة) أن يحاول أن يواجه قانون التطوّر؛ ولذلك حينما تسمع كلام بعضهم: «خطأ شائع خير من صحيح مهجور»، فإنّك للوهلة الأولى تلمح منه واقعيّة في إقرار أنّ الغلبة للشيوع والانتشار فيما يخصّ دلالات اللغة، لكنّه غير علمي لأنّه يخضع لتصوّر الخطأ والصحيح، فهذا مفهوم متأثر بثبات الدلالة ورفض التطوّر وهو يريد أن يبرّر سبب شيوع الخطأ وهجران الصحيح، والأحرى أن يكتشف أن المنتشر أصبح هو الصحيح والمهجور هو الخطأ، لأنّ الذي انتشر من الدلالة هو الحيّ، والذي هجر من الدلالات أو اللفظ هو المتلاشي، وهو الذي يُعاب أو يستهجن استخدامه ما لم يكن له سياق أدبي مبرّر له.
أصوليّة اللغة تأخذها إلى حالة من الجمود ترفض تطوّر الواقع والتأثّر بتحوّلاته، ولذلك فإنّ جمود اللغة وعجزها عن التطوّر يؤدي الى ضعفٍ في حملان ما كان متطوّراً ومتجدّداً، وشيء من هذا حجة في رفض العلم بلغته، أيْ: بواقعه المادي القائم؛ هكذا لا تختلف مآزق أصولية اللغة عن أصولية التراث، سلفيّة في الاتجاهين واتفاقاً في التطبيق والاستنتاج والتعليل، بينما أحداث الواقع ولغة الناس وكتّابهم ماضية دون الالتفات أو القدرة على الرجوع إلى دلالات وحالات تاريخيّة قضت وانقضت. هكذا يقع اعتبار دلالة الكلام ثابتة في تصوّرات أصوليّة تتعارض مع علم اللغة وتطوّرات دلالاتها.
* * *
تبقى الحاجة لمعرفة (أصول) الدلالات في فترة ما مرهونةً بتفكيك نص تاريخي -ديني أو أدبي أو قانوني أو غيرها من الموضوعات- يكون الأصل المرصود (ولا يستحسن تسميته أصلاً دون نسبته إلى زمن انتشاره) منتمياً للفترة نفسها التي انتشرت بها الدلالة، وقس على ذلك؛ فأنت إن شئت أن تتأمّل دلالات المتن القرآني فإنّ عليك أن ترجع إلى دلالات الكلام في القرن السادس للميلادي وسياقات انتشاره، وشيء من هذا جعل اللغوي يذهبون في تحرّي دلالات الكلمات من الرواة الثقات تقليداً لمذهب الفقهاء والمحدثين، وهم في هذا التحرّي عينه، يقرّورن بتحوّل اللغة التي آلت إليها وإلاّ ما بحثوا عن دلالات سابقة، وهكذا في أيّ عملية نقدية تحتاج إلى الرجوع إلى الدلالات التزامنيّة بين زمن نشوء النصّ وبين دلالات مفرداتها في زمن نشوء النص، لا في زمن متقدّم عليه. ولعلّ هذا الموضوع من أكبر مآزق اللغة العربيّة ومعاجمها لخلوّها من المعجم التاريخيّ لتطوّر الألفاظ والدلالات، والذي يزامن بين دلالة الكلمة وبين زمن نشوئها وانطفاء الدلالة وتحوّلها في زمن آخر.
وفي مسار التحولات وغيابها عن المعجم، تأمّل وقارن - مثلاً- أصول الكلام الذي جمعه ابن فارس في المقاييس، وبين ما جمعه البستاني، ثمّ طالع صحف اليوم ومؤلّفاتنا وكتاباتنا وكُنْ أنت الحكم فيما ذهبنا إليه في هذه المسألة: هل رأيت جموداً في اللغة أم رأيت التطوّر والتحوّل والتوسّع واضحاً على اللفظ ودلالاته!
* اللغةُ للناس، وللمعاجم اللاحقُ بهم.