د. حمزة السالم
كنت أعتقد أن أي خبير اقتصادي يدرك أن ما يفعله المضاربون في أسواق العملات من مضاربة على الريال وبيعه رخيصا في العقود الآجلة هو مجرد مقامرات من مقامرين لا يمكن أن تؤثر على سوقنا النقدية المحلية. ولعل اعتقادي هذا نابع من عدم نشر المعلومات عن أسعار الفائدة على الريال مُفصلة في أوقاتها، مما لا يستدعي جلب انتباه من لا شغل له بها.
فما كنت أعتقده -وهو الصحيح الذي يجب أن يكون- بأن المقامرات على الريال السعودي في أسواق العملات هي تماما كأن يراهن شخص في الرياض على سباق جياد في لندن. فمراهنة من في الرياض على سبق حصان في لندن لن تؤثر على الحصان فترهقه أو تتعبه، ولن يدري الحصان ولا مالكه بالمقامرة. وهذا الذي كنت متصورا أنه أمر واضح عند خبراء الاقتصاد، حتى اكتشفت أن الغالبية إن لم يكن الكل، وعمل السوق النقدية السعودية يؤيدهم، على خلاف اعتقادي. وذلك بسبب ضبابية واختلاط في المفاهيم مع تنزيل حالات دولية لا تنطبق عندنا، فقد اكتشفت أن المضاربات على الريال السعودي في أسواق العملات قد عملت عملها في السوق النقدية السعودية فرفعت أسعار الفائدة لعامين فأكثر. فما عدت أستعجب من اكتراث الناس بأساطير خفض قيمة الريال، مادامت سوقنا النقدية هي من نقلها من الأسطورة إلى الحقيقة.
فأسعار الفائدة المستقبلية هي تنبؤات تعتمد على عوامل عدة، في عمومها يجب ألا تبتعد عن الفائدة الأمريكية، (ولا يتسع المجال للإشارة لها). ولكن هذا بافتراض عدم تخفيض قيمة الريال. وتخفيض قيمة الريال لا يُتخيل منطقا اقتصاديا ولا سياسيا ولا تاريخياً إلا في حالة عجز الاحتياطيات الأجنبية عن تغطية الريال الخارج من السعودية. وبالنسبة لبلادنا، فهذا لا يمكن حدوثه إلا بمشتريات حكومية ضخمة من الخارج أو بضخ ريالات في المجتمع فتذهب للخارج عن طريق الحوالات والاستيراد، أو بفقدان الثقة المحلية بالريال مما يؤدي إلى هجران الريال وتخلص الناس منه باستبداله بعملات أجنبية، وتحويل الأموال للخارج. كما أشيع منذ فترة عن انخفاض الودائع لو انه استمر في الانخفاض.
فما حدث من هجوم على العملة المرتبطة في بريطانيا وفرنسا 1992 ونمور آسيا 1997 وغيرها، لا يمكن أن يحدث إلا باقتراض للعملة المحلية ثم تحويلها للدولار. هذا هو هجوم المضاربين الذي يكسر العملة ويستنزف الاحتياطيات. فجورج سوارس مثلا عندما راهن على انكسار ربط الجنيه البريطاني بالمارك الألماني عام 1992، قام باقتراض مليارات الجنيهات البريطانية من بريطانيا، ثم باعها بالمارك. أي أن بنك انجلترا المركزي أعطاه مارك ألماني من احتياطياته النقدية. وهكذا يفعل المضاربون حتى تستنزف الاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي للعملة المُهاجمة حتى تنكسر العملة. وهذه الحال يمكن منعها عندنا بطرق وأساليب متنوعة. فيمكن منعها بطريق الإيحاء للبنوك بعدم الإقراض أو بتجفيف سيولة البنوك لقسرها على ذلك وبطرق أخرى.
فماذا لو فعل أصحاب رؤوس الأموال السعودية ذلك فاقرضوا المضاربين، أو ضاربوا هم ضد عملتهم الوطنية، فلعل هذا يشرح بعض حقيقة ما أشيع عن نقص الودائع، فقد يكون نقص الودائع قروضاً للمضاربين من أصحاب رؤوس الأموال أو تكون مضاربة منهم ضد ريالهم السعودي. فالحال هنا كحال اضطرارنا لاتباع الفائدة الأمريكية لكيلا تخرج الأموال فتستنزف الاحتياطيات الأجنبية. فخطر هروب رؤوس الأموال عندنا مقتصر على استنزاف الاحتياطيات الأجنبية، بخلاف الدول المتقدمة التي يسبب لها أخطار أخرى. فنحن بلد معتمد على النفط وعلى الإنفاق الحكومي فلا علاقة بما يتناقله الناس والخبراء من أحاديث تخص غيرنا ولا تخصنا. (وهذا أحد أسباب قولي إن التخصيص الكامل لم يأت وقته بعد، فهجرة الأموال السعودية يجب أن تكون مكلفة لأصحابها ومقيدة بشكل غير رسمي، وهذا موضوع آخر).
وعودة لاحتمالية قيام أصحاب رؤوس الأموال السعودية بالمضاربة ضد الريال السعودي أو الإعانة عليه، بإقراضه للمضاربين. فأقول أولا إننا نحن الذين أوجدنا مناخا ملائما لهلع السوق فهربت أموال هلعة، كما أننا نحن أوجدنا السوق النقدية التي أوهمت بالفرصة لأموال وطنية تضارب ضد ريالها السعودي.
فلا ينبغي أولاً تجاهل السوق النقدية المحلية وتركها للمقامرين يتلاعبون فيها من أقاصي الدنيا، وقد أتفق مع من يقول: إننا لا نعير انتباها للمضاربات على الريال في الأسواق العالمية ولا نتدخل فيها، ولكن يجب علينا كسيادة وطنية وضبطاً اقتصادياً أن نمنع امتداد أثر هذه المضاربات لتتحكم في سوقنا النقدية المحلية، فلا نسمح لها بالتأثير على أسعار الفوائد المستقبلية، ولا أن تشكل تهديداً لاحتياطاتنا مطلقا، بهلع هالع أو طمع طامع، وألا نصنع التناقض بين التصريحات الرسمية بعدم تخفيض الريال بينما نسمح لسوقنا النقدية بأن تعترف باحتمالية خفض الريال وتعمل بذلك، عن طريق ارتفاع الفائدة المستقبلية. وهناك طرق كثيرة وأساليب، غير أسلوب فرض السندات الحكومية بفوائد اقل من الفائدة المستقبلية التي عليها العمل في السوق النقدية، (وهنا كذلك أنا أعتقد أن هذا منطق مقبول لشرح فرض السندات الحكومية بفائدة أقل، وإن كنت أصبحت أشك بكل تفسير منطقي لحدث غير منطقي يحدث في سوقنا النقدية).
وينبغي ثانياً أن نعمل على منع مشاركة الأموال الوطنية في المضاربة ضد عملتها، وهناك طرق كثيرة كذلك، لا يتسع المجال لها. ولكن ختام الحديث انه يجب قبل كل شيء أن نفرض السيادة الوطنية بألا نعمل على خلق مناخ يوحي بكسر الريال وألا يسبب هذا خوفا على الاحتياطيات من هجوم المضاربين نتحدث به علانية حتى يعطلنا عن خططنا التنموية. وأخيراً، فلو لم يلتفت لحديثي، فأهملنا الأمر إلى أن وصل لحد الخطر، فتذكروا السهم الأخير، فما عند بنك من سيولة تُعتَبر لتحقيق مضاربة وطنية ضد ريالنا الوطني، فحل سقوط بنك رؤوس الأموال الوطنية المضاربة ضد عملتها الوطنية بعدم إسعافه وبالتالي عجز أصحاب رؤوس الأموال أن تشن حربا على عملة وطنها، خير من سقوط الريال. فبتر العضو الفاسد خير من قطع الرأس.