عبدالحفيظ الشمري
التراث الإنساني هوية حضارية، تحدد معالم البناء في المجتمعات، وتصف بلا مواربة محطات التجارب والمكابدات والتعب والظروف المعيشية القاسية، إلا أن هذه التجارب الإنسانية السابقة ـ رغم قسوتها وصعوبتها ـ استطاعت أن تصنع لها وجودًا، وكيانًا غاية في الروعة والدهشة؛ لتتجاوز هذه الأعمال والمشغولات حدود كونها أعمالاً ضرورية إلى ما هو أعمق؛ لتظهر أمام جيل اليوم بشكل جمالي، يعكس البراعة، وتلمس فيها قدرة الإنسان على صنع ما هو بسيط ومدهش.
فالتراث الإنساني يتمثل في بُعدين مهمين، هما الجانب المعنوي، والآخر المادي. أي أن التراث المعنوي يتعلق بكل ما هو شفاهي، أو مروي، أو تم تدوينه في الرسائل والكتب، أو حفظه صوتيًّا وأرشفته؛ لكي يكون ذخرًا للأجيال القادمة، إذا ما أرادت أن تعود إلى مكونات هذا التراث المعنوي من قصص وأشعار وأمثال وحكم، ظلت هي الشاهد الوحيد على حقب سالفة في مجتمعنا.
أما الشق المادي - وهو لا يقل أهمية - فهو المتمثل في التراث المحسوس على نحو البناء والأدوات والحرف والمشغولات التي تُعد - بحق - نافذة مهمة، يطل منها الجيل الجديد على مرحلة شيقة وعذبة، وتحمل بين طياتها الكثير من المضامين الجمالية، فرغم أن بعضها فترات زمنية قاسية إلا أنها سجلت حضورها في الذائقة والوجدان بشكل متميز.
وتواجه حالة التراث بشقيه المعنوي والمادي الكثير من المعوقات، يتمثل أبرزها في ابتعاد الشباب عن ممارسة الحرف الشعبية، وتركها للأيدي العاملة الأجنبية الوافدة، ممن لا يحسنون عمل هذه المشغولات. ومن أسباب عزوف هؤلاء الشباب عن مهن وأعمال الآباء والأجداد أنهم لم يجدوا الدعم الكافي. ومن أبرز صور الدعم الممكن للتراثيين الشباب هو أن تدرج هذه المهن في الوظائف الثابتة؛ لأن الجيل الجديد يفكر بالوظيفة؛ فما إن تكون الحرفة أو المهنة معدة على هيئة وظيفة فإنها ستجد الاهتمام والإقبال من قِبل هؤلاء.
ونذكر على سبيل المثال في مجال توطين التراث المعنوي على نحو الأعمال الموسيقية، فإن «التلفزيون السعودي» استحدث سابقًا ومن خلال الخدمة المدنية ووزارة المالية الكثير من الوظائف الفنية والموسيقية وضابطي الإيقاع؛ ليزدهر المنتج الفني، ويصبح مركز التلفزيون ومسرحه طاقة هائلة من العطاء والتميز، وتقديم المواهب الشابة، وإعادة إنتاج التراث الموسيقي، وحفظه، وتقديمه للمستمع والمشاهد بشكل جميل. وبسبب وجود هذه الوظائف النوعية ازدهرت آنذاك تجربة التلفزيون في هذا المجال.
هذا المثال يقودنا إلى فكرة مهمة: أن تكون وظائف التراثيين متوافرة ومتميزة من أجل أن تستقطب أبناء التراثيين والحرفيين، وأن يكون هناك دعمًا ماديًّا، واستحداث مزيد من المؤسسات المتخصصة في الكثير من المناطق من أجل قيام منظومة عمل تراثي وحرفي وتقني متميز، يخدم الجميع، ويسهم في بناء مرحلة مهمة من مراحل تقديم تراث الآباء والأجداد إلى الأجيال القادمة.
كما أن هناك تحديًّا آخر، يتمثل في جعل «مشغولات التراث» فكرة تجارية؛ فقد يخدمها من حيث الشكل، لكنه سيفسدها من حيث المضمون؛ لأن السوق التجاري لا يميز بين حرفة وأخرى من حيث المضمون والجودة، وقد تدخل فيه الآلة والتصنيع خارجيًّا؛ ما يجعلها أمورًا شكلية، لا روح فيها أو تميز، على نحو الهدايا والتذكارات والأدوات والمشغولات اليدوية التي لا شك أنها تفقد جمالها وبهاءها حينما تكون معدة من خلال الآلة، ووسائل التصنيع الحديثة.