علي الصراف
لا تبدو مكافحة الفساد في العراق مهمة مستحيلة إلا لأن الفساد قد استشرى وتفشى إلى حد يجوز معه القول إنه هو «الدولة». ولكن هذا هو، في الواقع، نصف البلاء.
أولاً، إنه فساد مؤسسي شامل. فانطلاقاً من طبيعة نظام المحاصصة الطائفية الذي أنشأه بول بريمر رئيس هيئة الحكم في العراق عقب الاحتلال، صار لكل جماعة «حصة»، وصارت علاقات الاستيلاء والنهب و»التقاسم» هي الأساس.
هذا النظام سمح للجماعات الطائفية، وبالدرجة الرئيسة الموالية لإيران، بأن تفرض هيمنتها على كل المؤسسات الحكومية وكل دوائر الدولة، وأن يديرها كل طرف على هواه، ووفقاً لمصالحه الخاصة. وليقوم بتعبئتها بطواقم من الجهلة ومزوري الشهادات، فضلاً عن الطواقم «الفضائية» (التي تعني قائمة موظفين وهمية، يجري نهب رواتبها لصالح الجماعة التي تهيمن على هذه الدائرة أو تلك).
هذا الأمر يعني بوضوح أنه لم تعد هناك مؤسسة دولة، وإنما مؤسسة مليشيات متفرقة ومتنافسة ومتنازعة، يسعى كل منها إلى نهب كل ما يمكن نهبه من موارد الدولة.
لهذا السبب، ظلت الخدمات تتراجع، بالرغم من كثرة الموارد. ولهذا السبب أيضاً نمت قدرات الفساد وشبكاته, لتشمل كل وجه من وجوه العمل والتجارة بل وكل وجه من وجوه الحياة.
ومع تنامي قدرة الفساد وامتلاء محفظة شبكاته بعشرات المليارات من الدولارات فقد توفرت للمليشيات التي تقاسمت حصص السلطة أن ترعى سلسلة لا نهاية لها من عمليات الإفساد الجماعي.
فالأموال التي تم الاستيلاء عليها (سواء من عائدات برنامج «النفط مقابل الغذاء» التي تم تسليمها لسلطة بول بريمر، أو التي تم السطو عليها من خلال سلطة المليشيات) كانت ضخمة إلى درجة أنه كان بوسع كل جماعة من جماعات المحاصصة أن تشتري أتباعاً، وأن تبني «قاعدة» شعبية خاصة بها، وتمولها من عطايا النهب المنظم لموارد الدولة.
ومن هنا، تحول الفساد الى طاعون. ذلك أنه لم يعد هو «الدولة» فحسب، ولكنه صار يملك لنفسه «شعبا» يعيش عليه ويعمل وفقا لآلياته ويلتزم بمتطلبات الولاء التي تفرضها عليه هذه الجماعة أو تلك.
التقسيمات الطائفية، من فوق، بددت مفهوم «الشعب العراقي».
لم يعد هناك شعب يمكن أن ينسب نفسه إلى وطن. بل هناك مجموعات متنافرة من «الشعوب» التي تنسب نفسها إلى طائفة أو عرق، ولكل واحد منها جغرافيا خاصة بها.
وإذا كانت هذه مصيبة، فالمصيبة، من تحت، كانت أعظم. ذلك أن الجماعات المتنافرة في داخل طائفة، كونت لنفسها «شعبا» خاصا بها من الموالين والأتباع. ولكل منها مكان خاص بها داخل تلك جغرافيا العرق أو الطائفة.
الكل طبعاً، يعيش على موارد الدولة الوهمية التي تقوم على مؤسسات رسمية شكلية من قبيل الوزارات والبرلمان وغيرها من «عدة الشغل» التي كان يتعين عليها، طبعاً, أن ترعى الحصص وتحفظ توازنات الفساد والإفساد بين الجميع.
هكذا، إذن، لم يعد هناك شعب عراقي أصلاً. وكان هذا هو نصف البلاء الآخر، والأكثر تعبيراً عن الانسحاق التام أمام طاعون الفساد.
فحتى لو توفرت الإرادة لأي كان، من أجل محاربة الفساد، فانه لن يمتلك القوة لإملائها. وحتى إذا امتلك القوة، فانه يجب أن يفرضها من خلال حرب حقيقية مع قوى الآخرين. وهو ما يعني حربا مفتوحة بين الجميع وعلى الجميع.
القصة، إذن، ليست قصة ملفات يمكن أو لا يمكن الكشف عنها، كما أنها ليست قصة «رؤوس» مفردة، وهي كثيرة. إنها قصة نظام بأكمله، قام من الإساس، على قاعدة الفساد، وعلى بناء «مجتمعات» متنافسة تعيش عليه وترتع من فرصه وقدراته السحرية على ملء الجيوب.
وبينما من المفهوم أن يكون هناك الكثير من ذوي «الوطنية» الغائبة، الذين يبحثون عن نظام مؤسسي جديد يستعيد وحدة العراق ويستعيد وجود شعبه، فالحقيقة هي أن هناك الكثير أيضاً من جماعات الفساد والإفساد الذين يعارضون «مشروع الفيدرالية»، لأنهم لا يريدون إجراء تعديل على طبيعة النظام القائم.
هل من سبيل للعثور على مكان في العراق (تحت أي مسمى، فيدرالي أو غير فيدرالي)، لبناء مؤسسة إدارة حديثة، تقوم على قيم العدالة والمساواة أمام القانون، يمكن من خلالها استعادة الوطنية الغائبة؟
هل من مكان، ولو كان محافظة واحدة من محافظات العراق الـ 18، يمكن فيها إعادة تجميع ذلك الشعب الذي كان يدعى «الشعب العراقي»، يلوذ بها أو إليها من أي مكان؟
هل من مكان؟
سؤالٌ، لا أناشد به الحنين الى وطن ضيّعنا وضاع. ولكني أناشد به بقايا شعب ليس له مكان، وبقايا وطنية تغرق مثل قارب متهالك في خضم بحر عات.