محمد عبد الرزاق القشعمي
عرفت المخرج التلفزيوني البارع سعد الفريح عام 1398هـ/ 1978م عندما كان يخرج البرنامج الثقافي الشهير (الكلمة تدق ساعة) الذي كان يعرضه التلفزيون السعودي أسبوعياً ويقدمه محمد رضا نصر الله، وكان يجري اللقاء مع الأدباء والمشاهير من أنحاء الوطن العربي وكأنهم على طاولة واحدة - فيتم طرح قضية ما لتناقش من قبلهم فيجتمع عليها عبد الهادي التازي من المغرب وتوفيق الحكيم من مصر وعزيز ضياء من المملكة وعبد العزيز المقالح من اليمن وهكذا. كل حلقة تعرض يزداد انجذاب الجمهور لمتابعتها، وكان له متابعون ومتشوقون لما يطرح من قضايا الساعة وخصوصاً القضايا الثقافية المختلف عليها. كان لا يفصل بين لقاء واحد منهم والآخر إلا دقات الساعة.
كان ذلك قبل نحو أربعين عاماً عندما كان التلفزيون يبث باللونين الأبيض والأسود كنت وقتها أعمل في مكتب رعاية الشباب بحائل، وكان المكتب ينفذ برامج ثقافية واجتماعية منوعة، زار سعد الفريح حائل - مسقط رأسه - وحضر إحدى فعاليات المكتب وأعجب بها، فعرف مواعيد تلك الفعاليات فحضر مرة أخرى ومعه مصور أجنبي وكمرة التسجيل وكان نشاط المكتب الثقافي يقام وقتها على صالة إدارة التعليم قبل اكتمال منشآت المركز الرياضي، فبدأ بتصوير المناسبة، وكانت البداية مع تقديم الضيف بكلمة موجزة للتعريف به للحضور، فتحمس وأخذ الكمرة ليصور المناسبة بنفسه، وفي اليوم التالي حضر لمقر المركز الرياضي قبل اكتماله ليصور أهم مرافقه.. وهكذا بدأت العلاقة معه، إذ زرت الرياض منتصف عام 1400هـ فجمعني به الأستاذ محمد رضا نصر الله، وعرفت فيه جوانب إنسانية واهتماماً بالثقافة وكان حازماً وحريصاً على أن يقدم شيئاً جديداً جميلاً غير مألوف. أذكر أنه خلال تصوير إحدى فعاليات مكتب رعاية الشباب بحائل طلب الكلمة مدير التعليم وكان الفريح هو الممسك بالكمرة ليتابع خطابه، فتغير موقع المتحدث أو وجه وجهه لجهة أخرى فما كان منه إلا أن أوقف التصوير وبدأ يسب ويشتم وكان من شدة انفعاله أن أشعل سيجارة وسط الصالة وبها كبار الضيوف فلم يعتد فيها التدخين، فجئت له محاولاً التخفيف من انفعاله، فرمى بسيجارته على الأرض فوق الفرش وداسها برجله وخرج غاضباً.
كنت أراه في أوقات متباعدة ولكني أتابع البرامج التي أجده مخرجاً لها.
آخر مرة اتصل بي هاتفياً في شهر ربيع الآخر 1427هـ وهو يعرف علاقتي الوطيدة بالأستاذ عبد الكريم الجهيمان فطلب مني أن أحدد له موعداً لزيارته وعمل شيء عنه فقلت له إن لقاءنا الأسبوعي هو مساء كل اثنين في منزله. فقال: إنه يسكن خارج الرياض في طريق الحجاز في مكان قال إنه يُسمى (القديِّة) وأنه لديه مشوار لحائل في الأسبوع القادم، وسوف يتصل بي لتحديد الموعد.. بعد أيام علمت بسفره للمشاركة في إحدى المناسبات الرسمية. ولم نلبث إلا أن سمعنا نعيه بوفاة مفاجأة في مسقط رأسه رحمه الله.
راودتني فكرة الكتابة عنه ضمن زاوية (أعلام في الظل) فوجدت الدكتور الشبيلي قد كتب عنه راثياً تحت عنوان: (سعد الفريح.. العاشق المختلف)
«توفي الزميل المبدع، بعد رحلة مع العشق ولدت معه، وعاشت فيه، وأمضى من أجلها عمره المهني، وبقي أميناً لها، يصحو معها، ويتنفس هواءها، ويعيش يومه إلى جوارها، حتى فارق هذه الحياة وهو في أحضانها ممسكاً بأصابعها متدثراً بعباءتها.
كان واضحاً منذ البداية، أن سعداً، وإن اشترك مع زملائه في حبهم لعملهم وولائهم له، وصبرهم وتحمّلهم ومثابرتهم، فإنه كان يختلف عنهم، فلقد تحوّل حبه إلى عشق، بل إلى هيام، يذكر في اندماجه وانهماكه فيه، بقصص المتيَّمين: قيس، وجميل، وكثيِّر، وأمثالهم.
كان - رحمه الله - شحنة من الإبداع، طاقة من الفن، ودفقات من الحب لا يفكر إلاّ في معشوقته، لم يتطلع إلى وجه آخر، ولم يغيّر موقعه منها، ولم يفكر في التحول عنها، ولم يجرّب بديلاً عن منازلها، ولم يستظل بعروش عنب غيرها.
هذا هو (الحائلي) سعد الفريح، الذي بدأ مع التلفزيون وانتهى فيه، وولد مع الإبداع ومات من أجله، وخدم رسالة الإعلام وتوفي وهو في خدمته، وعندما أقول (الحائلي) فلأن هذا الجهاز (التلفزيون) الذي بُذرت نواته قبل أربعين عاماً، كان غرساً وطنياً شارك في سقياه ورعايته والعناية به كل إقليم من أقاليم هذه المملكة الغالية، وتمثّلت فيه وحدة هذا الوطن، وتآخى فيه كل صقع من أصقاعه ونواحيه.
لقد كان سعد الفريح، عاشقاً مختلفاً في علاقته بمعشوقته، منقطعاً - لدرجة البوهيمية، متسامحاً، لا يضمر، ولا ينافق، ولا يأبه بالأضواء، ولا يتزلّف، ولا يهتم بمنفعة أو ترقية أو منصب.
.. أفلا يستحق مثل هذا أن يخلّد التلفزيون اسمه(2)؟!
وكان الشبيلي قد زامل الفريح عند ما كان مديراً للتفزيون عند انشائه عام 1385هـ/ 1965م وقد أشار إلى ذلك في كتابه (قصة التلفزيون) وقال إنه عامل مهم في قطاع الهندسة والإنتاج وإنه قد أخرج تمثيلية (العيادة) وغيرها في السنتين الأوليين من بداية التلفزيون 65-1967م.
وقال عنه إنه مع زميليه وليد المزيرعي وإبراهيم النفيسة قد عملوا في تلفزيون أرامكو ثم كسبهم التلفزيون السعودي.
وقال أيضاً أنه في عام 1396هـ/ 1976م بعد أن توحد البث على مستوى المملكة، ظهرت أول أغنية سعودية نسائية على التلفزيون للمطرية (عتاب) كانت من إخراج سعد الفريح، وقد حدثت لها ردة فعل في عهد وزير الإعلام الدكتور محمد عبده يماني، وكنت - الشبيلي - في الحالتين مديراً عاماً للتفزيون، وأصبَحتْ جزءاً من التاريخ، بوصفهما أول حالتين لظهور نسائي في مجالي الأخبار والأغاني بالتلفزيون السعودي، وكان يقصد الحالة الأولى ظهور هدى عبد المحسن الرشيد المذيعة في إذاعة جدة ثم في إذاعة لندن، إذ كانت في زيارة للرياض وقدمت نشرة الأخبار على التلفزيون هي الأولى في تاريخه، ولم يكن لها ردة فعل تذكر، وقد حدث ذلك في عهد وزير الإعلام الشيخ إبراهيم العنقري.
إلى أن قال: إن النشاط المسرحي الغنائي الإذاعي قد ظهر في أوائل الثمانينيات الهجرية (الستينيات الميلادية) في إذاعة جدة.. ثم تحولت الفكرة إلى التلفزيون بدءاً من سنواته الأولى، وكان الزملاء سعد الفريح وبشير مارديني من أكثر من عمل على إنتاج هذا المسرح، وكان للبرنامج قبول شعبي.
وقال عنه حمد العساف: إنه كان يعمل في تلفزيون حائل، وعمله يتطلب منه الحضور للرياض من أجل إنجاز بعض الأعمال الفنية لتوفر الأجهزة اللازمة في محطة الرياض وكان دوره في الأستديو مساء، وكان مكتب المخرج سعد الفريح بجوار الغرفة الفنية، فكان يلتقي به ويستشيره في بعض الأمور الفنية التي تدخل ضمن اختصاصه، وكان لا يبخل بالمعلومة النافعة وأنه جاد وحاد وصارم وملتزم بعمله ولا يرضى بالمجاملات أو التقصير، وكثيراً ما يشجع المبتدئين ويوجههم.
هذا وقد كرمت جمعية الثقافة والفنون سعد الفريح - بعد رحيله - كأفضل مخرج سعودي في مهرجان (أفلام السعودية) منتصف عام 1437هـ وقال عنه سلطان البازعي رئيس مجلس إدارة جمعية الثقافة والفنون: «.. إن الراحل هو واحد من المبدعين الذين جاؤوا قبل وقتهم، والمتابع لسيرته العملية يجد مبدعاً عالي الهمة اتضحت أمامه الرؤية فشق طريقه إلى الحدود العليا لإتقان فن التعامل مع الكاميرا، فلم يكتف حين جاءته فرصة البعثة بدراسة نظرية يعود بعدها لتولي منصب إداري. وإنما اقتحم قلعة صناعة السينما العالمية يتدرب على يد واحد من أساطينها، ويتأسس درامياً بالتدرب على المسرح تمثيلاً وإخراجاً، كما حصل على فرصة عمل في واحدة من أهم شبكات التلفزيون العالمية التي اعترفت بموهبته وقدراته، وحينما عاد إلى العمل في التلفزيون السعودي كان سعد الفريح يرفع السقف دائماً فيما يقدم من أعمال، كما غامر بإخراج فيلم سينمائي مع علمه بأن البيئة لم تكن مهيأة لتقبل مثل هذا العمل، لكنه - رحمه الله - كان من الرواد الذين يفتحون الطريق، وهو من الرواد الذين نفخر بتذكرهم في مهرجان أفلام السعودية في دورته الثالثة.. ».
وبعد الاطلاع على (ويكيبيديا) الموسوعة الحرة وجدت أن أحد أبنائه قد كتب عنه: «هو سعد بن فريح بن محمد العفنان التميمي واشتهر باسم سعد الفريح، ولد في قرية السبعان في عام 1360هـ الموافق 1940م جنوب مدينة حائل.. وكان والده فلاحاً وقد عرف بزراعة النخيل وكان سعداً يساعد والده في الزراعة والري إلى جانب دراسته حتى أكمل المرحلة المتوسطة وكان عمره قرابة الخمسة عشر عاماً.
غادر حائل إلى الظهران مع مجموعة من الشباب للبحث عن عمل في شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو)، فأصدرت جوازات الدمام بطاقة الأحوال فأضافوا لاسمه الشمري، فأكمل دراسته في مدارس أرامكو إلى جانب دراسة اللغة الإنجليزية، فعين في مستشفى أرامكو كمراسل بين المختبرات والعيادات، وعند تأسيس تلفزيون أرامكو قدم برنامجاً عن التثقيف الصحي فكان يساعدهم بحمل الكميرات فأعجبه العمل فطلب نقله إلى محطة التلفزيون فتعلم ذاتياً حتى إنه قدم برامج مباشرة وذكر منها: برنامج صحتك والسلامة تبدأ بك، وزاوية الكتاب، والمباراة الثقافية، وفنجان شاي، وبرنامج سهرة الاثنين الذي استضاف عديداً من الفنانين والشعراء ومنهم: طارق عبد الحكيم، وعبد الله محمد، وطلال مداح، ومحمد زويد وسيد خليفة وغيرهم. ومع بداية التلفزيون السعودي عام 1384هـ الموافق 1964م تقدم لوزارة الإعلام، وبحكم خبرته عيّن فوراً مع مدير مشروع إنشاء التلفزيون السعودي وممثل شركة (إن بي سي) الدولية.
وفي العام نفسه ابتعث ضمن الدفعة الأولى للتلفزيون السعودي للمزيد من التخصص في الإنتاج التلفزيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، فالتحق بمعهد (آر سي أي) بنيويورك حصل خلالها على دبلوم للإنتاج والإخراج، كما درس لمدة ثلاثة أشهر في معهد (درامتيك وورك شوب)، ودرس أيضاً في جامعة (سيركيوز) في نيويورك في دورة عن الإنتاج التلفزيوني عام 1971م، وكان قد ذهب إلى لندن ليدرس في (بي بي سي) مدة ثلاثة أشهر عام 1968م وخلال هذه الفترات الدراسية كان التلفزيون السعودي يطلب منه العودة للعمل في بعض المناسبات المهمة لقلة الكوادر المدربة، فأخرج في بداية بث التلفزيون تمثيلية (العيادة) والتي ظهر بها لأول مرة الفنان حسن دردير ولطفي زيني، وكذلك إخراج أول مسرحية للتلفزيون بعنوان (أنا أخوك أمين) من تأليف طلال مداح، وأخرج أول فلم سينمائي بعنوان (تأنيب ضمير)، وأخرج الحلقات الأولى من مسرح التلفزيون والتي ظهر فيها لأول مرة طلال مداح وأبو بكر سالم وعمر كدرس ومحمود حلواني، ومحمد عبده وغيرهم.
وشارك مع سليمان الثنيان كمساعد مخرج في مسلسل (البرهان المفقود) من تمثيل عبد الرحمن الخريجي، وحصل على جائزة في تونس، كما حصل على جائزة من جهاز تلفزيون الخليج عام 1979م.
وفي ظروف غامضة غار سعد الفريح إلى لندن بنية الهجرة والتحق بقناة الـ(بي بي سي) لندن، وعمل فيها قرابة الخمس سنوات، وفي زيارة خاصة للملك فهد بن عبد العزيز - رحمه الله - إلى لندن حينما كان وزيراً للمعارف وكان يرافقه سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز التقى بهما بالصدفة ودار بينهم حديث مطول عاد بعدها إلى الرياض واستكمل عمله بالتلفزيون، وأخرج برنامج (الغيث والليث) و(نفحات شذا عطر من ملحمة عيد الرياض)، تأليف الشاعر بولس سلامة، وبرنامج (أسماء في الذاكرة هذا هو عبد العزيز) وكذا برنامج (الكلمة تدق ساعة)، وبرنامج (ألعاب مفتوحة)، وإخراج مسرحيتين (حلم الحياة)، و(حلم بلا ضفاف) وغيرها.
خلال مسيرته ساهم في أبراز وظهور عدد من الفنانين على الساحة مثل: سعد خضر ومحمد العلي وعبد الله السدحان وبكر الشدي وعلي الهويريني، وقام بتدريب عديد من المخرجين ومنهم: شلهوب الشلهوب وعامر الحمود، وخالد الطخيم، ومحمد الشقاوي، وناصر الصقيه، وعبد الكريم السيف.
وفي زيارة لحائل عام 1427هـ للإشراف على بث حفل استقبال أهالي حائل لزيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز أرهق فذهب ليستريح فتوفي رحمه الله.
** ** **
(1) هذه العبارة التي رثاه بها الدكتور عبد الرحمن بن صالح الشبيلي عند وفاته - رحمه الله - في 1427/5/11هـ الموافق 2006/6/7م.
(2) جريدة الجزيرة العدد 12305، الأربعاء 1427/5/11هـ الموافق 2006/6/7م.