د. عبد الله المعيلي
من طبائع البشر التي لا مندوحة فيها حب جمع المال، والسعي المستدام في تحصيله، الذي لا يمكن أن يتوقف المرء أو يقتنع عند تحقيق مستويات معينة منه مهما بلغ من درجات الثراء؛ وذلك لمسوغات عديدة، منها شخصي، ومنها ما يظن أنه من أجل تأمين حياة كريمة للأبناء، وفي كلتا الحالتين الأمر متفهَّم، ومنسجم مع الطبائع البشرية بصفة عامة، لكن بشرط أن يكون جمع المال وفق الطرق الشرعية الصحيحة، التي لا تعدي فيها ولا ظلم، ولا تحايل أو تزوير، أو استغلال منصب أو مكانة..
تولى أبو جعفر المنصور الخلافة بعد أخيه أبي العباس سنة 136. ويُعد أبو جعفر المؤسس الحقيقي لدولة بني العباس. وبعد أن بويع بالخلافة ذهب الناس إليه لتهنئته بإمارة المؤمنين. وكان ممن ذهب إليه أحد الواعظين، اسمه مقاتل بن سليمان، فبادره أبو جعفر قائلاً: عظني يا مقاتل. فقال مقاتل: أعظك بما رأيت أم بما سمعت.
قال: بما رأيت.
قال: يا أمير المؤمنين، إن عمر بن عبد العزيز أنجب أحد عشر ولدًا، وترك ثمانية عشر دينارًا، كُفن بخمسة دنانير، واشتُري له قبر بأربعة دنانير، ووزع الباقي على أبنائه.
وهشام بن عبد الملك أنجب أحد عشر ولدًا، وزعت تركته على ورثته، وكان له أربع زوجات، وكان نصيب الزوجة الواحدة ثمانين ألف دينار من التركة النقدية، عدا القصور والضياع.
والله يا أمير المؤمنين، لقد رأيت في يوم واحد أحد أبناء عمر بن عبد العزيز يتصدق بمائة فرس للجهاد في سبيل الله، وأحد أبناء هشام بن عبد الملك يتسول في الأسواق.
وقد سأل الناس عمر بن عبد العزيز وهو على فراش الموت:
ماذا تركت لأبنائك يا عمر!
قال: تركت لهم تقوى الله، فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولى الصالحين، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يعينهم على معصية الله تعالى.
كثيرة هي مواقف الحياة التي فيها عِبر واعتبار. وأجزم أن موعظة مقاتل بن سليمان للخليفة أبي جعفر المنصور تعد من أعظم تلك العِبر، وفيها اعتبار لمن يوفَّق لاستيعاب دلالاتها، ويستفيد منها في تعديل بوصلة اهتمامه؛ لذا على اللاهث وراء جمع المال والاستزادة منه بحجة تأمين حياة كريمة للأبناء بعد الموت أن يقف وقفة تأمل واعتبار من حال أبناء الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي لم يترك لهم - وهو يقدر - ما يورثه أقل الناس شأنًا وقدرة وثروة، فقد تركهم لله، والله سبحانه وتعالى المتكفل بالرزق، وحال أبناء الخليفة هشام بن عبد الملك الذي ورث الواحد منهم ما يتجاوز المليون دينار، ومع ذلك تبخرت تلك الأموال وضاعت، وانتهت الحال بأحدهم إلى حالة من البؤس والفاقة؛ ما جعله يتسول الناس في الأسواق.
في ذاكرة كل واحد أكثر من شاهد حي ممن ورث الملايين بل المليارات، ومع ذلك لم يوظِّف تلك الأموال في خدمة دينه ومجتمعه؛ ولهذا يجب على الآباء أن يوجِّهوا جهودهم ويسخِّروها في السعي في كل ما من شأنه صلاح الأبناء؛ ففي صلاحهم سعادة الدارين، وفيه أمان أن يعيشوا عيشة كريمة مستقيمة.
لا قيمة لغنى الجيوب مهما بلغت أرقامه وأرصدته.. القيمة الحقة في غنى القلوب وقناعتها وإيمانها بأن الاشتغال بتربية الأبناء وصلاحهم أجدى لهم وأنفع من المال الذي يرثونه، قَلَّ أو كَثُر.. فهل من مدكر؟