لبنى الخميس
خطابات رؤساء وزعماء العالم مدارس ذات فنون بلاغية وأدبية مختلفة، بعضها هادئ ورزين وبعضها غاضب ملتهب، إلا أنها تتشارك في قدرتها على حشد المتابعين، ورفع حرارة المترقبين، وإشعال نزعة الفضولين.. فيبدأ معهم مسلسل التنبؤات والقيل والقال، هل سيكون هناك زيادة في الرواتب؟ أو إعفاء من الضرائب والديون؟ أو تعيينات وزارية جديدة؟ وغيرها من الأسئلة المحلة. وبعد إلقاء الخطاب، تبدأ موجة جدل أخرى، فقرراته تتصدر هاشتاقات تويتر، وكلماته تسقط في يد مشرّحي الخطابات السياسية من محرري الصحف وكتاب الأعمدة، وتصبح كل عبارة مبطنة أو إيماءة جسد غير مألوفة ساحة للتداول وميداناً للتحليل.
لكن رئيساً مثل أوباما زعيم أقوى دولة في العالم، عرف بفصاحته وخطابته المذهلة، ولغة جسده الواثقة، واستعارته وتشبيهاته اللغوية المدهشة.. من يقف خلف خطاباته؟ لوهلة ستعتقد أنه كاتب سياسي مخضرم ذو شعر أبيض ونظارة مقعّرة، يحمل درجة بكالوريوس ودرجات ماجستير في السياسة والعلاقات الدولية والأدب المقارن وعلم النفس. لكنك ستصدم حين تعرف أنه شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين حينما تم تعيينه كبير محرري خطابات البيت الأبيض. هذا الشاب هو جون فافرو ثاني أصغر كاتب خطابات في تاريخ أمريكا.. ويسميه أوباما قارئ العقول.. لقدرته على قراءة أفكاره واستنطاق ما يسعى قوله لشعبه والعالم. بدايات فافرو كانت متواضعة، يجمع قصصات الأخبار لحملة جون كيري الانتخابية، وحين انسحب معظم الموظفين من الحملة لاعتقادهم انه يخسر انتهز فافرو الفرصة ونهض من دكة الاحتياط، وقدم نفسه ككاتب خطابات موهوب، لكن كيري خسر فعلاً في السباق، لكن سمعة فافرو كانت أمام انتصار بهيّ، إذ سمع عن موهبته أحد مساعدي أوباما ودعاه لمقابلة السيناتور أوباما وقتها، فذهل من فصاحته وذكائه وسحبه معه إلى البيت الأبيض ليعيش فافرو في منتصف عقده الثاني حلماً مدهشاً يتمناه الكثيرون.
ولعل أحد أبرز الخطباء السياسيين في تاريخنا السياسي العربي المعاصر هو جمال عبدالناصر، الذي عرف بخطاباته العصماء، وآرائه الملتهبة، التي لطالما انتصرت لروح العرب والعروبة مقابل الاستهانة أحياناً بالغرب وتهديداته. ما دفع أجيالاً عربية من المحيط إلى الخليج أن تتحلّق حول المذياع بانتظار صوته الجهور. ولعل من عاصر ذلك الزمن يعرف الرجل الأقرب إلى عبدالناصر محمد حسنين هيكل الذي يعد داهية في الكتابة السياسة، حيث كتب لعبدالناصر والسادات وحسني مبارك، وعينّ لفترة من حياته وزيراً للإعلام. لكن ما الذي جعل هيكل ينجح في كتابة خطابات عبدالناصر بالتحديد؟ السبب يكمن في ملازمة هيكل لهذا الزعيم العربي لفترات طويلة من حياته، في البيت والمكتب ورحلات الخارجية، ما جعله يفهم فكره ويتقمص شخصيته.
أما رئيسة وزراء بريطانيا والملقبة بـ «المرأة الحديدية» مارغريت تاتشر فكان يكتب خطاباتها التي تتراوح مابين الهدوء الحذر والانفعال الغير متوقع هو رونالد ميلر كاتب وممثل مسرحي، أعجبت تاتشر بقدرته الفائقة على صياغة القصة ومداعبة الخيال، فعينته كاتباً لخطاباتها التي لطالما حظيت باهتمام الصحافة البريطانية الأصعب إرضاءً في العالم.
وامتداداً لهذا الموضوع، أحب أن أعبر عن احترامي الشديد لأحد أبرز متحدثيّ هذا العصر معالي وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، تلميذ الأمير الراحل ومدرسة الدبلوماسية سعود الفيصل، الذي نجح في تجاوز أسئلة الصحافة الغربية بكفاءة وذكاء تنمّ عن خبرة وحنكة ودراية في العقلية الغربية. ويعود ذلك لإقامة الجبير فترة طويلة من حياته في الولايات المتحدة بالإضافة إلى نوعية وجودة تعليمه، إذ تلقى درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة شمال تكساس ودرجة الماجستير في العلاقات الدولية من درّة جامعات واشنطن «جورجتاون». فعلى الرغم من أن منصب وزير خارجية المملكة قد يكون من أصعب المناصب وأكثرها حساسية كون المملكة تتعرض بشكل متواصل وممنهج لهجمات إعلامية شرية إلا أن الجبير تصدى لها بمهارة واقتدار ليثبت أنه كفاءة وطنية فذّة، في وطن رؤوم ولاّد بالمواهب والكفاءات.