د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
الحكومة بمثابة الأشرعة التي تقود وتوجه السفينة، والشعب بمثابة جسم السفينة، والأشرعة لا تعمل بشكل صحيح إذا ما كانت ثابتة وتغيرت الرياح من حولها، بل لو عاكستها الرياح لتوقفت أو ربما غرقت. و جسم السفينة لا بد أن يكو كتلة متماسكة
لا تأكل فيها ولا ثقوب وإلا لعجزت عن جرها الأشرعة. وهناك إدراك عام لدي قيادتنا اليوم أنه لا بد من تحويل الأشرعة في تحول وطني جذري للتماشي مع مستجدات اتجاهات الرياح السياسية والاقتصادية في المنطقة والعالم. وقطاع كبير من الشعب يتطلع لهذا التحول والإصلاح. ومتلازمة التحول هي التغير والتجديد في شكل مدروس ومحسوب. فنحن حقيقية، ولا بد بالاعتراف بالحقيقة، نجافي العلم في بعض من أمورنا الاجتماعية والاقتصادية.
الحكومة ممثلة بلجنة الاقتصاد والتنمية برئاسة الأمير الشاب ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أتت بقرارات مبدئية جريئة ومتسارعة لتصحيح المسار الاقتصادي نتيجة لانخفاض سعر النفط، ونتيجة لاضطرار الحكومة لاتخاذ خيارات عسكرية في المنطقة بعضها ذا كلفة تمويل عالية. وكذلك اضطرار الحكومة لتعويم بعض الأنظمة الشقيقة اقتصاديا تفاديًا لتعرضها لعدم استقرار اجتماعي أو سياسي ينعكس على المنطقة برمتها. فالأقدار أرادت لمملكتنا أن تتبوأ منصة القيادة في المنطقة، وتحمل مسئولية الحفاظ ما تبقى من الأمة العربية من الانهيار. ومعظم قرارات التحول حتى اليوم ذات طابع اقتصادي، و تتعلق برفع الدعم عن السلع أو فرض الرسوم، أي من مبدأ العلاج الذي لا بد أن يكون موجعاً أحيانا للمواطن. والجميع يتطلع لبقية الإجراءات لعل فيها ما يخفف عليه. ومن المسلم به أن التغيرات الاقتصادية تحتاج لتحولات أخرى اجتماعية وسياسية حتى تأتي بأفضل النتائج.
القرارات الاقتصادية هي عادة من أسهل الأمور التي يمكن أن تتخذ في سبيل التحولات الوطنية، والأصعب هي القرارات الاجتماعية والسياسية. وقد اتخذت الحكومة مؤخراً قراراً جريئاً بتحويل هيئة الأمر بالمعروف لعمل تطوعي، ورغم أن هذا القرار يعيد الهيئة لأسس عملها الشرعية الصحيحة إلا انه قوبل بمعارضة بعض المتحمسين للهيئة وممن اعتادوا رؤيتها كجهاز ضبطي ذات صلاحيات شبه مفتوحة، وممن يعدون وجودها أمرًا جوهريًا مهماً. ومع كامل التقدير للهيئة ومن دورها الذي نثمنه لها، إلا أن هذا القرار كان قراراً علاجياً لا بد منه لعدة أسباب لا مجال لذكرها هنا. عموماً محتوى القرار ليس موضوعنا، ولكن شكله هو الأهم، فالجميع رأي فيه مقدمة لقرارات تحول اجتماعية وسياسية طال انتظارها ترفع من ثقة المواطن بنفسه وبمجتمعه.
ومن أهم القرارات التي ينتظرها جزء كبير من المجتمع تلك المتعلقة بمشاركة المرأة، نصف المجتمع الذي صرح ولي ولي العهد مؤخراً أنه لم يأخذ حقوقه المتاحة له شرعيا كاملة. و مشاركة المرأة الاجتماعية بشكل كامل أمر لا غني عنه في أي تحول اقتصادي مستقبلي. وهناك قضية معلقة أجمع معظم الناس ومنهم مشائخ كبار ألا أساس شرعي لمنعها الا وهي قضية قيادة المرأة للسيارة والتي لم تعد ترفاً بل ضرورة. وهي تطال الأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط التي وعد برنامج التحول الوطني بتحسين أمورها المعاشية قبل أن تطال الأسر الميسورة. فالفتاة العاملة في أي مجال بمرتب 5000 ريال مثلاً تدفع نصفه لسائق أجنبي. سائق أجنبي تجهل أصله و فصله و يقاسمها معيشتها في مشاوير عملها ومشاوير حياتها. هذا الجانب المتعلق براتبه فقط ولكنه تدفع أضعافه لهروبه، وتجاوزاته، ومخالفاته، وحوادثه، ونظافته، وربما قلة أدبه. والدول التي نستقدم منها سائقين عرفت مدى حاجتنا لهم فارتهنتنا بهذه الحاجة برفع رواتب عمالتها بشكل متواصل ربما لا نستطيع تحمله مستقبلا، بل وبإرسال أفراد لا معرفة لهم بمبادئ القيادة وتركت لنا مهمة تعليمهم القيادة وتحمل عناء ذلك. ولو فكرنا في هذه القضية ملياً لرأيناها تحولت لقضية ارتهان أخلاقية لنصف مجتمعنا، والناس لا تتفهم حتى اليوم ما السر في تأخر قرار السماح للمرأة بالقيادة والضغط باتجاه تأجيل السماح للمرأة بالقيادة.
هناك أيضاً قرارات تحوّل أخرى في هذا المجال فما زالت جامعاتنا على سبيل المثال تمارس فصلاً جنسيا مزدوجاً ومتناقضاً في كثير من مظاهره ليس عن قناعة بل عن خوف من اتهامات سخيفة أحيانا من الاتهام بالتغريب أو غيره. فمؤتمراتنا تستقدم عالمات جليلات مبرزات في مجالهن، ومعظمهن كبيرات في السن، لكنها تمنعهن من القاء محاضراتهن على الرجال، ليس ذلك فحسب بل إن صورهن تحجب من منشورات المؤتمرات، لكنهن يخالطن الرجال في كافة النشاطات الأخرى ومنها الولائم التي تقام لضيوف المهرجانات. وبالطبع نحن نمنع نسائنا من حملات الدرجات العليا من المشاركة مباشرة في جلسات المؤتمر حتى ولو كان ذلك في الصفوف الخلفية للقاعات. فهل نحن بهذا الانغلاق يا ترى؟ اما أننا نمارس ازدواجية مشوهة نضحك بها على أنفسنا قبل غيرنا. فإذا سمحنا لفتاة أن تعمل في السوق، والمستشفى فكيف لا نسمح لعالمة أن تشارك في مؤتمر؟ والعجيب أننا نشاهد صور لبعض علمائنا الأفاضل يشاركون جنباً على جنب مع النساء في مؤتمرات خارجية!!
الأمور الأخرى المهمة في التحول الوطني هو أن ننطلق من أن المواطن، حتى ولو لم يكن مشاركاً بشكل مباشر، يشاهد ويعي بعض مجالات الصرف التي تقوم بها بعض الجهات العليا، ويعتقد، ربما مخطئاّ، أن البعض منها لا يخضع لأمور الترشيد التي طلب منه أن يقبل بها. ولو بدأت الدولة بالتبيان للمواطن بأن الجميع ملتزم بأمور الترشيد لخفف ذلك عليه كثيراً فيما قد يعانيه من رسوم ورفع دعم وإيقاف للبدلات. والجميع لديهم ثقة كبيرة في دولتنا حفظها الله، لكنه يريد من يبين له ذلك ليطمئن قلبه.
ومن أمور التحول الوطني المهمة أيضاً الشفافية التامة في تبيان المصروفات، ومحاربة الفساد لأن الفساد للأسف لا زال يحف ببعض المشاريع والمشتريات لا سيما الحكومية منها. ووسائل الإعلام الاجتماعي تبالغ أحيانا في تصوير هذا الجانب، والإشاعات تفتك بالمواطن في غياب آليات شفافة تبرز الحقائق بشكل يقطع دابر الشائعات. كما أن التحول الوطني لا بد وأن تواكبه مجموعة من التشريعات التي تنظمه وتؤصل له. سواء في القطاعات الاقتصادية أو القضائية.
ومن أجل أن تلتحم أشِرعة السفينة مع جسدها بشكل أقوى وأمتن فليت حكومتنا رعاها الله تنظر في أمر رفع مستوى مشاركة المواطن السياسية. والجميع يدرك أن الحكومة تنتظر المجتمع أن يكون أكثر نضجاً من أجل رفع مستوى هذه المشاركة، ولعل برنامج التحول الوطني يكون نقطة انطلاق دمج المواطن في العمل السياسي على الأقل في المصالح التي تهمه وتمسه مباشرة وبتبني الانتخابات في الجامعات والوزارات والشركات لأن من يشارك في القرار يتقبل تبعاته بشكل أكثر أريحية. وربما كذلك النظر في السماح لمؤسسات المجتمع المدني لتشاركها في تنفيذ ومراقبة سير الحياة العامة للمواطنين، التوجه نحو مشاركة المواطنين في اختيار ممثلين لهم في مجلس الشورى، ومجالس حقوق الإنسان وغيرها. فالناس متلهفون لبرامج التحول الوطني ولكن كثير منهم يتمنى ألا يقتصر ذلك على الجوانب الاقتصادية فقط، أو على رفع الدعم وفرض الرسوم في هذا المجال. والله من وراء القصد