د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يصغر العالم وتكبر العلاقات بين الأمم. واليوم، في عصر العولمة، نشهد تداخلاً كبيراً بين الأمم التي كانت يوماً ما متباعدة. وقد أتت العولمة بنماذج جديدة لنمط علاقات جديدة- قديمة قائم على الاختلالات السابقة في التوازن في هذه العلاقات. فهناك دول، في غالبيتها دول استعمارية سابقة أو لاحقة، تنتج وسائل التواصل، وتنتج المعارف، والصور المعممة وباقي العالم يستهلكها. هذه رؤية سياسية وثقافية جديدة ترى أن عالم ما بعد الاستعمار لا يختلف كثيراً في حقيقته عن عالم الاستعمار السابق إلا في الشكل فقط. وكان أول من دشن رؤية عالم ما بعد الاستعمار هو الكاتب المعروف إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق»، حيث اتهم سعيد مدارس ومؤسسات الاستشراق في الغرب، التي تتلبس بلبوس البحث العلمي، بتقديم خدمات استعمارية لدوله، وذلك عبر تقديم نظرة مختزلة للشعوب الأخرى وعلى رأسها الإسلامية التي ينظر لها الغرب المسيحي كعدو دائم متربص به، رؤية يتقاسمها توجهان: الغرائبية الجنسية: الحريم، الحجاب، وألف ليلة من ناحية؛ وأخرى تراه عالماً وحشياً بربرياً. ولم تكن الجماهير الغربية (العامة من الناس) تفرق في نظرتها بين عوالم ألف ليلة وليلة وبين الواقع الحقيقي للشرق العربي الإسلامي. بل إن هوليود تستلهم ألف ليلة وليلة والقصص الفلكلورية الأخرى كعلي بابا، وعلاء الدين لتعميق صورة خيالية شاعرية سحرية عن عالم الإسلام والمسلمين. هذه الصورة تعمق وتعمم ويعاد انتاجها عبر أنماط ثقافية وإعلامية جعلتها خطاباً مركزياً أو ربما الخطاب الأوحد عن العالم الإسلامي.
«سعيد» يرى أن صورة الاستشراق الأوربي المادية التي أوجدها الفنانون والكتاب والعلماء المستشرقون الذين أتوا من الغرب الإنساني المتقدم، المتعلم، والمستنير للشرق المتخلف المليء بالغموض، بالسحر، والأساطير والعنف والجنس، تختلف عن صورة الاستشراق الأمريكي الذي لم يكن له أي احتكاك استعماري مادي مع الشرق، في أن الصورة الأمريكية عن الشرق الإسلامي أكثر تجريداً وغموضاً، وتتمحور حول إنشاء إسرائيل، وردة فعل المسلمين والعرب على ذلك، فإسرائيل ينظر لها كمنارة للحضارة والقيم الأوربية في هذا الشرق المتخلف القائم على الطغيان والسحر والشعوذة، والقيم العنيفة التي مهمتها الأساسية اقتلاع هذه البذرة اليانعة في هذه المنطقة الخطرة.
انتهت الحرب الباردة وبحثت الدوائر الغربية عن عدو جديد للغرب، فكان الإسلام الخيار الأنسب والأقرب والأكثر جاهزية، فبدأت أطروحات لويس، وهانتجتون، وبيرقر (الجهاد ضد عالم الماكادونالد) عن صدام الحضارات، وكأنما الغرب حضارة واحدة والشعوب الإسلامية كلها باختلافاتها مجتمع واحد، وأن الصراع بينهما حتمي. هذه الصورة تعمقت بعد أحداث 11 سبتمبر، بالرغم من الشكوك الكثيرة حولها، للتحول إلى رؤية رسمية ترى هدف العالم الإسلامي الأوحد هو تدمير الحضارة الغربية ومبادئها، وأسلوب حياتها عبر الإرهاب. وهي رؤية لا تختلف كثيراً عن رؤية البغدادي، وبعض المتطرفين الإسلاميين للغرب. هذه الرؤية في نظري لم تتغير حتى بعد تدمير أفغانستان والعراق وإعادتهما للعصور الوسطى كما صرح من قبل جيمس بيكر وزير الخارجية الأسبق.
بيت القصيد هنا هو التأكيد على أن عدسة النظرة الشمولية التي تنظر بها أمريكا والغرب لمنطقتنا لم تتغير، بل تزداد وتتعمق، وهي في شموليتها لا تفرق بين الحلفاء والأعداء، فالحلفاء في نظرهم هم مجرد أدوات ملائمة تتم مجاملتها ما دامت مفيدة في صورة هذا الصراع الأشمل، لكنها في نظرهم مصابة بالداء ذاته ولا يمكن شفاؤها، ولذا لا يؤمن جانبها. فالنظرة هي نظرة ثنائية اختزالية بين الغرب وغير الغرب.
ولو فهمنا ما يجري في منطقتنا من خلال هذا الفهم العام لما استغربنا ما يجري في منطقتنا ابتداءً من ليبيا وانتهاءً بالعراق مروراً بسوريا، فكل دولة غربية تتدخل فيما يخصها لكن الغرب عموماً يعتقد أن أي تغيير في هذه الدول مضر بمصلحته. وقد نصح كل من ذكرناهم أعلاه إضافة لاستراتيجيين آخرين الغرب باستثمار الخلافات مهما كان شكلها، عرقي، ديني، مذهبي داخل الدول الإسلامية والعربية لتمزيق هذه الدول.
وهنا نفهم تصريحات أوباما المتلاحقة حول المنطقة وإصراره في كل زيارة على ترديد أن أمريكا ترحب بالتعاون مع حلفائها في المنطقة في «محاربة الإرهاب» فقط، وفي الحرب على «داعش» وتمنّعه المستمر، أو ربما مرواغته عن الكلام عن تغيير السلطة في سوريا أو لجم إيران.
ولو فهمنا تصريحات أوباما بشكل مختلف لوجدناها تعبر عن رغبته في استهلاك حلفائه في الدفاع عن أمريكا ضد الإرهاب، وليس معنياً بالأهمية ذاتها في التعهد بحمايتهم من أعدائهم المحتملين في المنطقة. فالوضع القائم في المنطقة: الحرب الأهلية المذهبية في العراق، الدمار المستمر والاقتتال في سوريا، يخدم بالدرجة الأولى المصالح الأمريكية، بل ربما تكون أمريكا هي التي رتبته ضمن هذه الرؤية الشاملة، ولذلك سيكون من الغباء تغييره. وهذا ما يفسر زيارات بايدن ووزير الدفاع الأمريكي اشتون كارتر المكوكية للعراق كلما لاحت في الأفق سحب احتمالات مبادرات للاستقرار في هذه الدولة، وإصرار الغرب على الدعم العرقي للأكراد بمختلف اتجاهاتهم حتى الشيوعيون منهم.
فأهداف أمريكا وثوابتها تتمحور حول محورين: إدامة الاقتتال والصراعات في الدول العربية والإسلامية، وزيادة نفوذ إسرائيل. وتأتي بعد ذلك حماية بعض الحلفاء في المنطقة فيما لا يتعارض مع هذه الثوابت. ولذا صرح أوباما في زيارته مؤخراً لألمانيا: بأننا في الغرب (أمريكا وألمانيا وغيرها) لم نحس بمثل هذا الأمان من قبل. صرح بذلك دون أن يأتي على أي ذكر للمجازر التي كانت ترتكب في حلب والتي شملت المستشفيات والمدارس والأسواق.
ما أتت به دراسات ما بعد الاستعمار في العلاقة بين الدول الاستعمارية ومستعمراتها السابقة هو أن الدول الاستعمارية لا تنظر لمستعمراتها السابق من حيث ثقافتها وخصوصيتها وحضارتها، لأنها في نظرهم ليس لديها ما تسهم به في الحضارة البشرية (الغربية). و لذا تختزل علاقاتها الثقافية معها في أمرين اثنين فقط: ما يسهل استمرار السيطرة عليها، وما يسهل استغلالها اقتصادياً. فلا بد من جعل هذه الدول في حالة اعتماد دائم على مستعمريها السابقين، ولابد من تذكيرهم دائما بأنهم لا يستطيعون تحقيق أي انجاز دون مساعدتها سواء كان هذا الإنجاز علميا، أو اقتصاديا أو حتى ثقافيا. فهي في حالة رضاع مستمر لا فطام منه.
المشكلة ليست في هذه الرؤية في حد ذاتها فقد يجادل أحدهم بأن للدول الغربية الحق في تبني ما تشاء من رؤية، ولكن الخطورة تكمن في تشرب أبناء دول الثقافات المغلوب على أمرها لهذه الرؤية وتتقبلها، و تستميت النخب في هذه الدول لتأكيد إنسانيتها وبشريتها بإظهار أنهم يتبنون القيم الغربية ذاتها أو قيم مطورة داخلياً مستمدة منها أو مشابهة لها. وعندما تعترف هذه النخب بشكل مباشر أو غير مباشر بأنها لا تستطيع انجاز ما ترغب في إنجازه دون مساعدتها. أي باختصار عندما تدخل في حوار ثقافي غير متكافئ معها. ولو استخدمنا التعبير الذي يتداوله البعض كنوع من الاستعارة لوصف العلاقة بين الحضارات: «التلاقح الحضاري» لربما توصلنا لفهم أقرب لما نقصده. فالحقيقة أنه حتى في الحياة الفطرية للحيوان والنبات لا يوجد تلاقح متوازن، وهناك دائماً جانب يلقح وآخر يتلقى اللقاح. وهذا للأسف يدعنا نعترف وبمرارة بكافة أنواع استجداء الحوارات الحضارية مع الغرب لأن صورتنا لديهم وصورتهم لدينا متغايرتان تماماً، بل ربما متعاكستان، واحدة طابعها التدنيس، وأخرى يطغى عليها التقديس، والتلاقح للأسف تلاقح استبضاع، فهم الأصل والبعض يجتهد ليجعل نفسه صورة كربونية منهم.