د. حسن بن فهد الهويمل
سأقصر الحديث على مستجد [الفكر والأدب]، وإن كان ماسواهما من سائر المقولات المتعددة الاتجاهات لا يقل أهمية، ولا خطورة.
وإذ لايكون من المناسب اجترار ما أفاض به المختلفون حول أسلوب التلقي للمستجدات، في سائر المجالات. لاستفاضتها، فإننا سنصرف النظر تلافياً للتكرار. وقد تسوغ الإعادة في أضيق نطاق، من باب التذكير.
المؤكد أن التداولات حول التليد، والطريف بين أطراف الحداثة، والمعاصرة، والأصالة، والتجديد. والتجاذبات حول ماجد من المناهج، والمعارف، والنظريات، تَحْمِلُ كل الأطراف على مزيد من احتدام المشاعر، والتنكر لما عُلم من الفكر، والأدب بالضرورة.
ولاسيما أن المتداولين للمستجدات أكثرهم أحداث سن، وعهد بالمستجد. بحيث لا يتوفرون على المعارف الكافية، ولا على الخبرات الطويلة، ولا على التجارب المتعددة.
ومصائب مشاهد أمتنا الفكرية، والأدبية تتمثل في:-
أولاً: غياب المصداقية في بعض المواقف، والتقول على الطرف المناوئ، وتقويله مالم يقل قصداً، لتوهين رؤيته، والتشكيك في أهليته، للاضطلاع بمثل ما يضطلع به غيره.
ثانياً: الأثرة، والإقصاء، والتصور بأن المشهد لا يتسع لأكثر من خطاب واحد. واستعداء السلطة، والرأي العام على المخالف. وهذه الأخلاقيات، والمفاهيم لا تعد من التجاذبات المشروعة لكافة الأجنحة.
ثالثاً: توجيه المناكفات إلى الذوات، تجريحاً، وتجهيلاً، وتهميش القضايا، وبذل الجهود لتحقيق الانتصار، دون البحث عن الحق.
وتلك خليقة لا يُسْتثنى منها أحد من المتجادلين. وبود العالمين، المجربين، الناصحين لأمتهم أن يتوفر المختصمون على الأهلية، لتداول الرأي حول [التراث، والمعاصرة]. فما من أحد يمكنه التسليم لرأي واحد. والتعددية المحكومة بضوابطها مطلب العقلاء.
وتتمثل الأهلية في:
- المعرفة التامة بالتراث، والمعاصرة.
- الشعور بالعزة، والندية. والإيمان بأهلية [الحضارة الإسلامية] للإسهام في تكوين [الحضارة الإنسانية].
- اليقين بأن [الحضارة الإسلامية] قادرة على استيعاب المستجد، وإذابته في كيانها. والحيلولة دون ذوبان الذات في الآخر.
- الرحيل بالتراث، وتفعيله، لا الرحيل إليه، والجمود داخله.
- إتقان لغة الحوار. والتفسح لكل الأطراف، والاستماع منهم، وإسماعهم. لأن البقاء للأصلح في النهاية.
- استبعاد الأوهام، والمثبطات التي يضخها المناوئون في سبيل الحرب النفسية.
والمتمثلة بأن حركات [التنوير] التي أنقذت [أوروبا] من السلطة الكنسية، ومحاكم التفتيش، هي نفسها القادرة على إنقاذ الأمة العربية من السلطة الدينية المتمثلة بالحاكمية، والأحكام.
ومع أن هناك مبالغات، وتهويلات من كل الأطراف حول [التنوير]، فإن هذه الشنشنة لمَّا نزل نسمعها بين الحين، والآخر، على شكل فلتات ألسن مأزومة، وما تُخفي الصدور أكبر.
إن لدينا قدرات لاستقبال الآخر، والاستماع إليه، واتباع أحسن مايقول، مع الاحتفاظ بقيمنا، والاعتزاز بتراثنا، ولكن الممارسات لاتبدي هذه القدرات.
[الحضارة الإسلامية] حضارة استيعابية، تعايشية، متفتحة، وليست منغلقة على نفسها.
ومما هو ثابت في تاريخ الحضارات، أنه لا يوجد حضارة بريئة من الأخذ، والعطاء. كما أنه لايوجد حضارة سيئة على الإطلاق، ولاحضارة مهيمنة، وملغية للآخر.
وكيف يتأتى القبول بهذه الدعاوى. ورسول الرحمة يقول:- [إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق]. ويقول:- [الحكمة ضالة المؤمن، أين وجدها فهو أحق بها] -أو كما يقول-.
والإسلام استوعب شرائع الأمم السابقة، وأخذ منها مايصلح للحياة السوية. والمسلمون انتشروا في آفاق المعمورة، وتلبسوا بشيء من العادات. وأشاعوا القيم الإسلامية، المتمثلة بالعدل، والمساواة، والحرية، والناس دخلوا في دين الله أفواجا، دون أن يتخلوا عن كل موروثاتهم.
وكل الرسل بُعثوا برسالة التوحيد. ولكل أمة شِرعةٌ، ومنهاجٌ، تناسبان ماهم عليه، وما هم بحاجة إليه.
مانفقده في ضجة المستجدات، وتنازع البقاء سوء التصرف مع النوازل الفكرية، والأدبية، وسوء الإختيار للأفضل، عند تزاحم الأضداد.
فتداخل الأصوات يحتاج إلى رواد يمتلكون التمييز بين النغمات، إضافة إلى غزارة المعرفة، وعمق التجربة، وبعد النظر، والقدرة على احتواء الأطراف المتنازعة، وتمكين كل طرف من طرح رؤيته، وذلك بتوفير الأجواء الملائمة لتداول الأراء، فالوجود الكريم، والتعبير عن الرأي بحرية، حق للجميع.
ماتعاني منه مشاهدنا في بعض التجاذبات، افتقار المتنفذين إلى الرؤيَة الشمولية، التي تستوعب المستجدات، ثم تَفرز التراكم المعرفي على ضوء متطلبات المرحلة، ومحققات المبادئ، وفقه المقاصد.
إذ لا أحد يستطيع الريادة، وحفظ الساقة، وهو لا يستبطن مبادئه، ولا يمتلك الثبات على المواقف.
فالذواقون، والعاطفيون، والتكسيريون، والمندهشون المبهورون، لا يمتلكوون القدرة على التأسيس للقيم، فضلاً عن التصدر، وإتخاذ القرارت.
إن هناك رؤى، وتصورات مجتَثَّة، لم يؤسس لها، تشبه إلى حد كبير [بادئ الرأي] ومنتجوها يتسمون بضيق العطن، والتخلي عن المسلمات، والقول بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير.
فمن السرعان المندفعين من يرى أن التجديد لا يتحقق إلا بهدم القديم، والخلق من العدم. أو التبعية البلهاء، التي لا تعي المتبوع. ومنهم من يرى أن [الحداثة] رديف التجديد، ومن ثم يقع في خطأ فهم المصطلحات على وجهها، وهذه أولى اشكاليات مشاهدنا.
والأشد فضاعة أن يكون المستغرب عالة على المترجمات، قعيد وطنه. فلا هو جوَّاب دولٍ، يعرف بالمخالطة الطويلة ما عليه العامة، والخاصة. ولا هو متقن للغة الغرب بوصفها مفتاح التصور، ووعاء الحضارة، التي نحن أحوج ما نكون إلى إتقان أساليب التعامل معها، والاستفادة منها. ولاسيما أن أمتنا العربية مسبوقة بمسافات طويلة، لاتستطيع أن تعبرها دون مسانِد.
السمة البارزة لمشاهد ما بعد [حملة نابليون] الاندهاش، والتبعية، والنيل من التراث. بَدَأ هذه الخليقة [رفاعة الطهطاوي]، وتوارثه من بعده عمالقة الفكر المعاصر، الذين لم يسلموا من دخَن الحضارة المادية.
وممن راد لهؤلاء المتسرعين [أبو القاسم الشابي ت 1936] عندما ألقى محاضرة عن [الخيال الشعري عند العرب] عام 1929م، وهو لم يستوعب المعاصرة، فضلاً عن التراث، كما أنه لم يعرف غير العربية.
وذلك عندما سخر من الشعر العربي القديم سخرية مُرَّة، ودعا إلى عَدِّه [أدباً نحترمه ليس غير].
وكيف يتأتى لشاب مثله، متوقد الحماس في إبداع الشعر، أن يُلمَّ بالتراث، والمرضُ، والعَوَزُ لازماه طوال حياته القصيرة، كما أنه طورد بأسباب رؤيته الغرائبية، وجنحه الفكرية، ومات في مطلع شبابه، عفا الله عنا وعنه.
ومنذ ذلك التاريخ، والمشهد يتوارثه من ينادي بالتهديم، أو الاستبدال، أو استقبال الحضارة الغربية، كما فعل [طه حسين]. وقَلَّ أن تجد في جيل [العمالقة] من يتقن البناء. وحتى لو وجد، لكان على جانب من التطرف، والإقصاء.
وكتبتنا تتنازعهم في مجالي [الفكر، والأدب] ثلاثة مستويات فكرية:-
- فكرٌ متسطح. تحدوه الأصوات، وتصرفه الإشاعات. وهو كالريشة في مهب الريح. لا يستقر على حال. يسمع بالظاهرة، ثم لا يدري أحق هي، أم باطل.
وإنصياعه لها محكوم بالأسبقية، لأنه كالأرض الموات. وظاهرة الذواقين الذين لايستقرون على مبدأ، ولايهتدون إلى قصد السبيل. تكاد تكون المتسيدة.
- وفكر متعمق. يسمع، ويعي، ويعرف جذور الظواهر، ولديه قدرة على الجدل، وهذا الفكر تتنازعه الانتماءات، وتصرفه الخلفيات الثقافية. وقد يسيطر الانتماء على التفكير، بحيث لا يتاح له الفرز، والمفاضلة.
وهذه الأجواء ملائمة لإفراز علل فكرية، كـ[التعصب]، و[اتباع الهوى]. وقد تعلو نبرة التعصب، فيكون المفكر كمن اتخذ إلهه هواه.
- وفكرٌ أعمق. متزود بلغة الغير، ومخالط للغربيين في عقر دارهم، يعرف كل متعلقات الظواهر، وجذورها، وأسبابها. وحمولاتها الفلسفية. ولديه احتكاك مباشر مع سائر الحضارات الإنسانية.
هذا الفكر كأي فكر بشري، لا يسلم من وضر الأفكار المادية، وعوارض الصلف، ومصادرة حقوق الآخرين، وفرض الانتماء، دون تقدير للتوازن في تكوين الرؤية البديل، أو الرديف.
ومع هذا فإن بعض الشر أهون من بعض. ونحن أحوج مانكون إلى مثل هذا الفكر، لأنه على الأقل يعي مايقول، ويتصرف عن معرفة، وقناعة. والتعامل مع هذا الصنف بعد التأصيل، والتأسيس يُمَكِّنُ من معرفة الآخر على حقيقته.
داء مشاهدنا - وأدواؤها كثيرة - من بعض أدبائنا، ومفكرينا ممن يتلقون النظريات الوافدة بعين الرضى، والتسليم المطلق. دون معرفة ببواعثها الفكرية، وأجوائها الفلسفية، وضوابطها المنهجية، ثم لا يقبل أحد منهم بالتعايش، والتفاعل، وطرح النظرية الوافدة، كرديف لما هو قائم، بعد تفريغها من محتواياتها غير الملائمة لحضارتنا.
إن مشكلة البعض من كبار النقاد، والمفكرين، أنهم لا يقبلون المحاصصة. وإنما يُلِحون على أن تكون النظرية المختارة بديلاً لما هو قائم. وعلينا استعراض رؤية المتعالقين مع [الليبرالية]، و[العلمانية]، و[العولمة]. وسائر المناهج [اللغوية] الحديثة، ومرادفاتها من [بنيوية]، و[تفكيكية]، و[سيميائية]، و[تأويلية]، و[اسلوبية]. وسائر المناهج السياقية كـ[الأسطورية]، و[النفسية]، ونظريات [التلقي]، و[النقد الثقافي]. وغيرها مما هو متداول.
وعند إفساح المجال للوافد من النظريات التي انتهت صلاحيتها في منشئها، لا يتورع المتعالقون معها من النيل مما هو قائم، من طارف، وتليد. والتقليل من شأن الآخذين بالنظريات القائمة. وهذا نقص في التكوين المعرفي، وفقدٌ لضوابط حوار الحضارات.
هذه الفئة المأسورة بواحدية الرأي، تستغل كل طاقاتها، وإمكانياتها، لإقصاء سائر النظريات، بما فيها النظريات التراثية، القادرة على العطاء، والتفاعل مع الآخر.
يتبع...