د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن حييت في كتابات عدة، ما تفضلت به مؤسسات رائدة في إعادة نشر كتب رواد إصلاح الفكر الديني والإسلامي والتنموي في مجتمعاتنا، ولا غرو أن مكتبة الإسكندرية قامت بعمل محمود في هذا الجانب عندما قامت بإعادة إصدار مختارات من التراث الإسلامي - الحديث - القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين - التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وهو عمل جاد ومثمر يمكن للعام والخاص الاستفادة منه، إذ لأول مرة يتم عمل دراسات تقديمية موسعة لكل كتاب، يقوم بها باحثون متخصصون من جيل الشباب في محاولة ذكية من مسؤولي مكتبة الإسكندرية لترسيخ التواصل بين الأجيال.. وقامت لجنة علمية متميزة بمناقشة هؤلاء الباحثين ومراجعة دراساتهم كما تشترك معهم في حوارات علمية رصينة تضم كاتب التقديم ونظراءه من فريق الباحثين.
ومن بين كتب التراث النهضوي الإسلامي التي تمت إعادة نشرها وتوثيقها وتقديمها أعمال علي شريعتى (العودة إلى الذات)، محمد مصطفى حلمي (الحياة الروحية في الإسلام)، الطاهر الحداد (امرأتنا في الشريعة والمجتمع)، عبد العزيز جاويش (الإسلام دين الفطرة والحرية)، نبوية موسى (المرأة والعمل)، العلامة المغربي علال الفاسي (دفاع عن الشريعة)، العلامة التونسي الطاهر ابن عاشور (مقاصد الشريعة الإسلامية)، محمد إقبال (تجديد الفكر الديني في الإسلام)، عبد الرحمن الكواكبي (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، محمد باقي الصدر (المدرسة الإسلامية)، خير الدين التونسي (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)، عبد المتعال الصعيدي (الحرية الدينية في الإسلام)، محمد الغزالي (السنة النبوية من أهل الفقه وأهل الحديث).. وأتفق تمام الاتفاق مع الأستاذ إسماعيل سراج الدين مقدم السلسلة إلى أنه ربما كان غياب هذا القسم من التراث النهضوي الإسلامي سبباً من أسباب تكرار الأسئلة نفسها التي سبق أن أجاب عنها أولئك الرواد في سياق واقعهم الذي عاصروه. وربما كان هذا الغياب أيضاً من أسباب تفاقم الأزمات الفكرية والعقائدية التي يتعرض لها أبناؤنا من الأجيال الجديدة داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية وخارجها. ويكفي أن نشير إلى أن أعمال أمثال: محمد عبده، والأفغاني، والكواكبي ومحمد إقبال، وخير الدين التونسي، وسعيد النورسي، ومالك بن نبي، وعلال الفاسي، والطاهر بن عاشور، ومصطفى المراغي، ومحمود شلتوت، وعلي شريعتي، وعلي عزت بيجوفتش، وأحمد جودت باشا - وغيرهم - لا تزال بمنأى عن أيدي الأجيال الجديدة من الشباب في أغلبية البلدان العربية والإسلامية، فضلاً عن الشباب المسلم الذي يعيش في مجتمعات أوربية أو أمريكية، الأمر الذي ألقى على مكتبة الإسكندرية عبئاً مضاعفاً من أجل ترجمة هذه الأعمال وليس فقط إعادة نشرها بالعربية وتيسير الحصول عليها (ورقياً وإلكترونياً).
فكان هذا المشروع يسعى للجمع بين الإحياء والتجديد، والإبداع، والتواصل مع الآخر، وليس الاهتمام بهذا التراث إشارة إلى رفض الجديد الوافد علينا، بل علينا أن نتفاعل معه، ونختار منه ما يناسبنا، فتزداد حياتنا الثقافية ثراء، وتتجدد أفكارنا بهذا التفاعل البناء بين القديم والجديد، إسهاماً في التراث الإنساني المشترك، بكل ما فيه من تنوع الهويات وتعددها.
ولكن إذا صح لنا أن أخرج بخلاصة واحدة، سواء من خلال تناولنا لأفكار أصحاب التقدم والتنوير في أي قطر من أقطار العالم، أو من خلال رواد الفكر والإصلاح الديني والسياسي في الوطن العربي والإسلامي أو من خلال التفكير في الإصلاح في تاريخنا المعاصر انطلاقاً من المشهد الراهن ومآلاته، فهي ضرورة الالتزام بالحكمة في بناء أي شيء، وفي تمثُّل الفكر والخطاب الديني والسياسي، فالحكمة هي أصل كل شيء؛ وهي التي تسقي جذور الإصلاح، وهي التي تبني المجال السياسي العام على أصول لا تحور ولا تبور، وهي التي تجعل من العقل عقلاً ناهضاً، ومن المجتمع مجتمعاً سوياً، ومن النظام السياسي ومن الأحزاب السياسية والأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية مؤسسات تبني وتتكيَّف مع الواقع والمستقبل.
ولا فائدة هنا في ذكر أقوال الرواد ومدح مسيرتهم وكتبهم، فالمئات من الكتب تزخر بآرائهم وأفكارهم، ولكن لتبين الخلاصة التي نستقيها من حديثهم وتأصيلهم للإصلاح والتجديد الديني وللإصلاح والتجديد بصفة عامة. فهي كلها في نظري تجتمع على نبذ التقليد الأعمى وما اعوج في صيرورة مجتمعاتنا من تخلف وتقهقر، وهاته الحكمة هي روح العقل وهي تتكيّف مع الواقع والمعاش، وخصائص كل دولة على حدة، فليبيا بتنوع طوائفها، ليست هي الأردن، ومصر ليست هي الكويت، والمغرب ليست هي تونس، كما أن فرنسا ليست هي بريطانيا ولا هي ألمانيا، كما أن هاته الأخيرة ليست هي الولايات المتحدة الأمريكية، فلكل دولة خصائصها، وأنه في أوطاننا يجب أن يكون الدين للجميع، ولا يمكن لأحد أن يكون وصياً عليه بإدخاله في جراثيم السياسة المتغيرة والمبنية على إدارة الاختلاف؛ كما أن صناديق الاقتراع والتمثيلية هي مسائل لا يختلف عليها اثنان، ولكنها تنجح في أوطان وتفشل في أخرى لغياب الحكمة، فخذ مثال تونس بنعلي وخذ مثال عراق صدام وسوريا بشار، هؤلاء قوم غابت عنهم الحكمة، ولو رزقوا الحكمة لبسط لهم التاريخ بساطاً أحمر في سجلاته ولما ظهرت داعش وأخواتها.. ثم لماذا لم تتطور العلوم الإسلامية ليجنح المختصون فيها إلى التقليد؟ لأن الحكمة غابت عنهم، فالمشكلة هي مشكلة رؤية وليست أزمة تنزيل. وعندما تفشت ضروب من التبعية تحت دعوة القداسة في بعض الأحيان فلغياب الحكمة، وعندما تمارس على الإنسان العربي والمسلم الضغوط والتوصيات والتقليصات المنبوذة فلغياب الحكمة، وعندما تدّعي بعض الأحزاب الإسلامية أنها على ملة السلف في العقيدة والمنهاج وأن ما عداها ضلال أو كفر فلغياب الحكمة، والله سبحانه وتعالى {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}.
كما أن إمحاء الحدود بين الديني والسياسي في التجرية الغربية والطغيان الخرافي الديني كان بسبب الواسطة التي يظن رجال الدين الكنائسيون أنهم مختصون بها، أي أنهم صلة وصل بين العباد والخالق، أما الدين الإسلامي، فلا وصية لأي إنسان على الآخر ولله الحمد والمنّة، وعلاقة العبد هي علاقة مباشرة بينه وبين الله ولا يحتاج إلى وسيلة أو واسطة بشرية تمنحه صكوك الغفران أو تتوسط له بينه وبين خالقه، فلا مجال للمقارنة بين الوضعين، ولا مجال للوصاية الدينية أو بما أُسميها بالعبادة التوسطية التي عندهم في ديننا الحنيف، ولكن ما يمكن أن نعتمد عليه في سردنا لهاته الوقائع التاريخية، ليس هو تغييب الدين، والدعوة إلى الإلحاد والعياذ بالله، وإنما ضرورة استعمال العقل والحكمة في الحال والمآل، والحفاظ على ديننا الحنيف بالنفيس والغالي انطلاقاً من عدم زجه في السياسة أو زج السياسة فيه، وانطلاقاً من أصول واقعنا الديني وليس تنزيلاً أو استنساخاً للتجربة الغربية في علاقتها المرة بالكنيسة، وقد حددت شروط هذا الإصلاح العقلي في إطار بحث نشره مؤخراً مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية بعنوان: «اتحاد عاصفة الفكر: الدلالات والتحديات» ودعوت إلى إصلاح شامل وإلى رؤية جديدة ينظر إليها من زاوية العقلانية الرشيدة والعقلانية النقدية، فالأزمة شاملة تتعدى مفاهيم الأصالة والمعاصرة، والقديم والحديث، وزوايا المنهجية والابستمولوجيا والإيديولوجيا، إنها عطالة العقل العربي الذي لا ينفع معه طبيب الذات الفردية أو طبيب الذات الجماعية، وإنما طبيب كلي يصف دواءً شاملاً بعد تعزيزه بعلاج تشخيصي برهاني يتجه إلى كل العوامل، في إطار تداوٍ بما كان يسميه قدماء الأطباء (بالسكنجبين) وهو مركب من الحلو والحامض.