ياسر حجازي
منذ زمن، لا أظنّ بأنّني لمحت اختلافاً أو تغييراً يطرأ على الخطابين اللذين يتصارعان في معظم الدول العربي، ولعلّ أحداث الربيع العربي وفوضاه الذي فرضها على دول عربيّة عدّة، والمخاطر التي أوجدها على الدول المجاورة، قد أوصلت أتباع الاتّجاهين الرئيسين إلى حالة من الثبات والتكرار والوضوح، بينما يسهل معرفة أجندة كلا الخطابين على الرغم من ضبابيّة طريقهم إلى تحقيق أهدافهم، حتّى لتشكّ في هذه الأهداف التي لا وسيلة إلى تحقيقها، لمثالياتها وغياب الموضوعيّة والواقعية.
لا أسرار، رغم وقوع التعارض بين الخطاب ومفرداته؛ تتوقّف التيّارات المدنية العلمانيّة وما يرشح من مستقلّين عند حدود الدفاع عن خطابها بخطوطه العريضة من منطلق عدم تعارضه مع التراث أو أصول الدين، لكنّها تتوقف عند هذه النقطة تحديداً، ونادراً ما تستمرّ فيما هو بعد العقدّة الوجوديّة الراهنة، لطالما يغيب عن خطابها مفرداتها العلميّة والواقعيّة والنظريات المعاصرة الحيّة، ولا تدافع عن خطابها من منطلق المرجعيّة العلميّة التي لا بدّ أن ينطلق منها الخطاب العلمي وضرورته السياسية. هذا أكثر جهدها: أنّها في حالة دفاع على اتهامات متوالية/ أو ما تعتبره متطلّبات المرحلة في حساباتها الخاطئة (التأهيلية، نشر الوعي قبل تشريعات مدنيّة تمكّن ما تسعى إلى نشره ثقافة وتعليماً)، وهو ما تراهن عليه ضمن سياق (أوهام) المرحلية؛ وهذا وهنٌ على وهمٍ حينما يريد الخطاب العلمي السياسي أن يستخدم الدين كمصدٌّق عليه، وهو بذلك يعطي المرجعيّة مرّة أخرى إلى التفسير الديني، ولا يختلف عن السياسي-الديني في المرجعيّة ذاتها، إنّما ينحصر الخلاف في تفسير وانتقاء وقائع التاريخ ونصوصه. فتأمّلْ أين تميل الأكثرية في تواري تشريعات تفصل تماماً بين الخطابين؟!
وكذا حال الخطاب الديني-السياسي يمارس تقية-سياسيّة بحيث يدّعي تمثيله للدين، وأنه مبرّأ من الغاية الدنيوية/وبعيداً عن الطمع السياسي-السلطوي، وإذا بأهدافه مبنية على أهداف انشقاقيّة في سبيل الوصول للسلطة، وكيفما كانت النتائج على السلم الأهلي والكيان الوطني؛ فإن كانت الحركة/التيار/الحزب/الأتباع في حالة الضعف ذهبت إلى ادّعاء الاعتدال والابتعاد عن أيّ أجندة سياسيّة والموافقة على مدنيّة الدولة واحترام دستورها وقوانينها، وإذا انقلب الحال والمآل وجدتها تسعى لابتلاع الجميع-المخالفين والمختلفين، وعادت إلى أسطوانة تكفير المجتمع والدولة والمدنيّة.
هكذا خطابان، وصل الأمرُ بهما إلى حدّ الشلل التامّ، وتعبئة العموم وتحويلهم إلى قنابل موقوتة فيما يهدّد السلم الأهلي أكثر من أيّ وقت مضى، لأنّ كلا الطرفين يحضّر لمعركة «كسر عظم» وتصفية نهائيّة لمن يظنّه عدوّه بشتى القنوات الإعلاميّة، والقنوات الإلكترونيّة، والخطورة أنّ الأصوات المتطرّفة غالبة في الاتجاهين وتستخدم أسرع الوسائل في إبقاء التطرّف كيفما كان لصالحها، على الرغم من تصدّي التشريعات التي بدأت في السعودية والخليج في تجريم التحريض والعنف وغيرها من سلسلة التشريعات التي كبحت شيئاً من علانيّة هذا التسارع في نشر التطرّف الإلكتروني، والمؤمّل أن تكبح المزيد كلّما ازدادت التشريعات التي تحدّ وتحاصر العنف والتحريض والعنصريّة والفئويّة بشتّى وسائله وأشكاله.
**
يختلف الخطابان في أهدافهما، ويتشابهان في الأدوات؛ والكلام صار مسموعاً قبل نطقه أو نشره؛
فأنت تعلم بالخبرة والملل والتشابه والتكرار: (ماذا قد يكتب هذا؟) (وماذا قد يكتب ذاك؟).
ولعلّ الخطابين كانا يتوجّهان لمن «لا يريد الانحياز» في زمن سابق على أمل زيادة الأتباع، قبل مشاع المعرفة مثلاً. بينما مشاع المعرفة وإباحة أوهام الثقافة والتديّين العمومي والمشاركة السياسية عبر الواقع-الافتراضي، جعل الذين (لا يريدون الانحياز) نسبة غير مرئيّة، فلا حياد في الواقع-الافتراضي تبعاً لتجربته العربيّة (على الأكثريّة-والغلبة)، فكأنّ الناس جميعاً قد حسموا أمرهم واصطفافاتهم بين الخطابين.
خطابان ينحازان إلى ما لا يجمعهما، ينحازان إلى ما يصفّيهما.
هكذا تكتبُ لمجموعة من الناس هم مهيّأون - قبل قراءة ما تكتبه- لقبول خطابك وما ترمي إليه إذا كانوا قد اطّلعوا على كتاباتك، وكنت وإيّاهم على رؤية متقاربة، ولا تدهشهم بما معك من رأي وتحليل وفكر، وليس معك ما يقلب النتائج. (أين العلميّة في هذه المناصرة؟)
هكذا يكتب الديني-السياسي خطابه لمجموعة تتقبّله وتقبل كتاباته وتقدّم له سلسلة من التبريرات تحصّن فيها أخطاءه وعنفه وتحريضه. (أين التقوى من هذه المناصرة؟)
•حسناً، ما نفع الكتابة في هكذا اصطفاف عنيف وتيه يؤوس!!