د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
العنف لا يولد إلا العنف، حقيقة يدركها الكثير ممن يراقبون المناطق المشتعلة بالحروب والقلاقل مثل منطقتنا. والعنف هو العنف سوى وصفناه ربيعاً أو خريفاً، حرباً أو ثورة. وضحايا العنف دائماً هم الأبرياء الذين لا يسهمون عادة في إشعالها. وما سيلي هو رأي في أن الحروب في منطقتنا أشعلتها أطراف لا تستطيع الاستمرار بدونها، لأن هذه الأطراف تعتقد أن في الحروب تحقيق مصالح عليا لا يحققها السلم. فلا يمكن بحال من الأحوال، مثلاً، فصل ما يجري في العراق وسوريا اليوم عن حرب الخليج الأولى والثانية. فعراق صدام كان على يقين بأن إيران الثورة في عام 1979م كانت ستسعى للتمدد غربا بتصدير الثورة. وإيران الخميني، مثلها مثل أي ثورة شعبوية لم يكن لها أن تكتمل وتستقر إلا بسلسلة لا حصر لها من الإعدامات الداخلية، وسعي حثيث لتصدير مشاكلها للخارج لإشغال الداخل بأي حجة كانت. أما عراق صدام فقد قرر خوض حرب استباقية وأن يتغدى بإيران قبل أن تتعشى به. وكانت خسارة إيران بعد الثورة مباشرة لحرب خارجية أكبر إهانة للدولة الجديدة، لأن الشعب الإيراني بدأ ينظر لها على أنها غير قادرة حتى في الدفاع عن وجودها وحدودها. لكن إيران وجدت في الحرب وسيلة لإحكام قبضتها على الداخل الإيراني بتقوية البسيج (الحرس الثوري الإيراني) وإشغال الجيش النظامي في حرب في الخارج حتى يكتمل ترتيب الأمور في الداخل.
ثمان سنوات من الحرب الإيرانية العراقية المتواصلة، جعلت النظامين يتعودان على الحرب كأسلوب حياة، وكسياسة عامة. فالنظامان يحكمان بالعنف المطلق في الداخل وأجواء الحروب هي البيئة التي تتيح استمرارية ذلك. وبعد انتهاء الحرب الإيرانية العراقية كانت أطناب الأجواء الحربية قد ضربت نفسها بشكل عميق في كلا الدولتين بشكل لا يسمح لهما بالتوقف. فأخذت إيران ترتب أمورها لحرب إقليمية طويلة الأمد مؤسسة على إيديولوجية مذهبية، وتدعم في السر وتجند الأقليات الشيعية في كل مكان: حزب الله، أنصار الله، حزب الدعوة العراقي الخ. وكانت تستخدم أرضها كمعسكر تريب واسع لهذه القوى. أما العراق، الذي بنى جيش من مليون مقاتل، فلم يستطع التأقلم مع أجواء السلم الجديدة فأقدم على غزو الكويت، مما حتم تأسيس قوة دولية بقيادة الولايات المتحدة ليس فقط لإخراجه من الكويت بل وأيضاً لتدمير جيشه الضخم الذي نظر الجميع له على أنه تهديد لمصالحه في منطقة حساسة من العالم.
خاضت أمريكا حربين ضد العراق أحدهما في 1991 لإخراجه من الكويت سميت عاصفة الصحراء، قضت على الجيش العراقي الذي دخل الكويت بالكامل تقريبا، وفرضت على العراق حصاراً صارماً هدف في عمقه لإحداث تغيير داخلي ذاتي في العراق. غير أن العقوبات على العراق زادت النظام العسكري فيه قوة لأنها منحته فرصة لتشديد قبضته على الداخل، وكذلك منحته حجة دعاية لإسقاط كل مشاكل القصور في الداخل على حصار الخارج. وتحول الحصار مع مرور الوقت لإحراج سياسي واقتصادي للغرب بسبب تردي الأوضاع الإنسانية في العراق، وبسبب ضغط بعض الدول الغربية لإعادة نفط العراق للسوق، فكان غزو العراق في 2003م والإطاحة بصدام، والذي ورطت أمريكا بعده في كيفية إدارة العراق الجديد، فسارعت إيران بتقديم حزب الدعوة لأمريكا لحكم العراق. ولأن أمريكا حاربت العراق السني وحاصرته لمدة طويلة فاتجهت للخيار الشيعي على أنه أقل الضررين ولكنها لم تنتبه للرغبة الإيرانية الحقيقية لاستدامة الحروب، لأن الحرب الخارجية أصبحت أسلوب حياة لإيران لا غنى عنه.
استغلت إيران ثورة السنة في الفلوجة على الوجود الأمريكي، وثورة الشعب السوري على الأسد لتدخل المنطقة في دائرة صراع استمر لأكثر من عقدين من الزمن. وكان هذا الوضع هو الوضع الأكثر ملائمة لحكم الملالي في إيران الذي يريد إحكام قبضته على الداخل الذي أخذ يتململ من تردي أوضاعه الإنسانية، ولم يعد يرى مصلحة من استعداء الجميع. لكن الملالي بطبيعة حكمهم لم يعدو الشعب الإيراني في الداخل ولا اتباعهم في الخارج بأي أمر دنيوي، وإنما وعدوهم أنهم في حال استمرارهم في الحرب وانتصارهم فإنهم سيسهلون عودة المهدي المنتظر. وهذه لم تكن نهاية القضية، حيث إن إيران عملت على خلق أجواء في المنطقة تكون الحرب فيها لكثير من الأطراف اللاعبة فيها أجدى من أي سلام. فحزب الله اللبناني، على سبيل المثال، الذي خدع الناس بشعار المقاومة ضد إسرائيل، وهو يدرك أنه لا قبل له بمواجهتها، لا يمكن أن يستمر في لبنان في ظل أجواء السلم والسلام لأنه الحرب بالنسبة له أصبحت الأفق الوحيد المتاح لاستمراره، ولذا فقد وجد فرصة سانحة في الانخراط في الحرب السورية التي عمل مع إيران والنظام لإلباسها لبوساً طائفية.
وللأسف فإن هذا الوضع ينطبق أيضا على روسيا، لإن روسيا مثل إيران خرجت من أفغانستان خروجاً مذلاً، وبدأ الاتحاد السوفيتي يتفكك واختل الاستقرار الاقتصادي والأمني داخل روسيا ذاتها، وبدأت الحكومات الروسية تمارس سياسات داخلية غلافها الخارجي ديمقراطية وليدة معتلة وداخلها جهاز أمني قمعي عسكري يستند على خبرة المي بي جي الواسعة في ذلك. وأفرزت هذه البيئة ما اطلق عليه حقبة بوتين-مديديف. ولذا اعتمد بوتين إيديولوجية ديماغوجية تقوم على إذكاء الحس القومي الروسي، وإعادة الاعتبار للكنسية الأرثوذكسية التي دفنتها الحقبة الشيوعية. ومنذ تولي بوتين السلطة في روسيا زاد القمع الداخلي، وازدادت الاغتيالات الخارجية، وبدأ البحث عن الحلفاء القدامى في الخارج، ودخلت روسيا في حرب القرم مع أوكرانيا، وبدأت في مشاغبة الغرب كعدو خارجي. وبدأ الوضع وكأن روسيا تبحث عن حرب خارجية سانحة مع عدو لا يمكنه المساس بداخلها، ولم تجد أفضل من الحرب السورية بعد اعلان أمريكا الانسحاب من المنطقة. فالحقيقة أن هناك تشابه كبير بين إيران، وروسيا، وحزب الله في توجههما نحو سياسية استدامة الصراعات الخارجية وهذا ما سهل التحالف بينهم في سوريا.
ولأجل استدامة الحرب في منطقة غير مستقرة أصلاً تم تأسيس مجموعات وأحزاب وقوى ترى الحرب أسلوب حياة مربح أكثر من السلم والاستقرار. فالحشد الشعبي في العراق، وداعش في سوريا، والحوثيين في اليمن هم نتاج الصراعات ولم يعرفوا غير بيئة الحرب والصراع التي تمنحهم الاستمرارية، ولا يستطيعون التوائم مع بيئة السلم ولا يستطيعون التعامل معها. ومن نفهم الدور الذي تلعبه داعش وبعض القوى الأخرى على الساحة في تهيئة هذه البيئة، ونفهم أيضاً انتقال داعش لليبيا، ومصر، والصومال وغيرها لتوسيع هذه الدائرة. ومن هنا أيضا نتفهم جهود المخابرات الروسية في تجنيد المحاربين الشيعة من دول الاتحاد السوفيتي السابق وافغانستان للحرب بجانب إيران. فاستمرار الحرب السورية ضروري جداً لاستدامة الثورة الخمينية في إيران، ولاستمرار حقبة بوتين السياسية في روسيا فهناك تشابه كبير بينهما.
وتتطابق مصالح هذه الأنظمة وللأسف مع مصالح بعض الفصائل من الطرف الآخر التي ترى الحرب هي أسلوب الحياة التي تخدم مصالحها بشكل أفضل، ومنها بعض الفصائل السنية في سوريا، وكذلك بعض المليشيات في ليبيا، ومليشيات علي عبدالله صالح في اليمن. فالحرب أعادت الأخير كلاعب على الساحة اليمينية مرة أخرى بعد خروجه منها. وبهذه الرؤية تمكن قراءة مواقف الحوثيين والنظام السوري في المفاوضات. والحقيقة المرة التي لا بد من ذكرها هي أن حالة العنف مرشحة للاستمرار في منطقتنا حتى تدرك هذه الفصائل أن السلم أسلوب حياة أفضل لها من الحرب.