د. حسن بن فهد الهويمل
وكل المتعاطين مع المستجد، لاينفكون من توجس الخيفة، والضيق حتى بالمستجد المخالف للمُتَعالَقِ معه، والمتوسلون بفيوض الحضارات الإنسانية، لايحسبون أدنى حساب لبواعثها [الأيديولوجية].
ولو ضربنا الأمثال بـ[النظريات الألسنية]، وبخاصة [التفكيكية] وطغيانها في كافة مشاهد النقد الأدبي، لوجدنا المنساقين وراء بوارقها يوجهون نقداً لكافة المناهج، والآليات، والنظريات الآخرى، بما فيها [نظرية النظم] عند [عبدالقاهر الجرجاني]. على الرغم من أن هذه النظرية لم تُفَعَّل من بعده.
التراث العربي غني بالأسس، والإشارات الواضحة للمناهج اللغوية الحديثة. وليس هذا مجال الحديث عنها، لأنها معروفة لدى المهتمين بالنقد اللغوي.
لقد تناولت شيئاً من ذلك في ندوة [قراءة جديدة لتراثنا النقدي]، عام 1409هـ، بورقة تحت عنوان [ملامح الموروث في الظواهر النقدية المعاصرة]، ونُشِرَت في كتاب [نادي جدة الأدبي] رقم “59” المجلد الثاني «ص 511».
وورقتي هذه تمد بسبب إلى تلك، حيث أخذت على المشهد ماتفيض به الساحة النقدية من صراع متنام بين فئات تتعشق الجدل، وتستنبته.
فئة تدعي النفوذ بالاستكشاف، وتمعن في ادعاء الاستشراف المستقبلي، وتسخو باتهام المناقض لوقوعه تحت طائلة الاستعادة، والرجعية، واجترار الماضي.
وفئة تتشح برداء المحافظة، مستصحبة مع الادعاء اتهام الأطراف الأخرى بالتغريب، والتنكر للموروث.
والمنصف يحار، ويأسف لهذا الصراع، ويتمنى لو بقي الجدل خارج دائرة الاتهامات الشخصية، ليثري الساحة النقدية التي اقشعرت، وصوَّح نبتها، حتى رعي الهشيم.
هذا بعض ماجاء في الورقة قبل ثلاثة عقود. وصداه يكاد يعود هذا المساء، لأننا بعد لم نتخلص من هذه المناكفات.
ومادمنا بصدد الحديث عن [التفكيكية] بوصفها أهم الظواهر النقدية، فإن الذين هم على جانب من آليات النحو، والصرف، والبلاغة، والاشتقاق، وفقه اللغة، وعلم التأويل، والحقول الدلالية، والمعاجم، يدركون إلى أي حد يستطيع التراث مشاطرة المستجد اللغوي. ولولا الحمولة الفلسفية لـ[التفكيكية] لقلنا:- إن النحو عملية تفكيكية، أفضل من آليات التفكيك، ومناهجه.
التراث اللغوي العربي ينطوي على ملامح عدد من النظريات اللغوية، التي لا يقل أثرها التفكيكي عما جد من نظريات نقدية.
وأنا هنا لا أدعو إلى الاكتفاء بما لدينا، ولا أقلل من أهمية المستجدات اللغوية، بل أدعو إلى استثمارها، والاحتفاء بها، والتمكن من فهمها، والاستعانة بها، للوصول إلى أدق منطويات النصوص الإبداعية، على ألا تكون الاحتفائية على حساب الموروث، وتهميشه.
ما نأخذه على مشاهدنا الفكرية، والنقدية منذ فجر تاريخها الحديث ارتهانها لقابلية التبعية، والتنكر للموروث. ولا أدل على ذلك من تأليف كتب عن جنايات [سيبويه]، و[البخاري]، و[الشافعي] بأقلام عربية، تستقبلها المشاهد باحتفاء استثنائي، وترى أنها برؤيتها تصيب كبد الحقيقة، إضافة إلى التطاول على دعوات، ودعاة أجمع مؤرخو الحضارة على أهليتها، وتميزها.
ومع إيماني الراسخ بأن كل عالم، ومفكر خاضع للنقد، والمساءلة، والمراجعة وأنه عرضة للخطأ، والتراجع. إلا أن ما يدور من لغط فارغ، لا يمثل مقولة:- [كل عالم راد، ومردود عليه].
إن مثل هذه التصديات المتشنجة، تحمل في ثناياها ذلة الخنوع، ومهانة التبعية وعار الجهل.
وإلا كيف يستقيم أمر الأمة، ورموزها يواجهون أحكاماً مطلقة، لا تتورع عن نسف موروثهم جملة، وتفصيلا.
فماذا يقال عن عالم كـ[ابن تيمية]، ومصلح كـ[ابن عبدالوهاب]، وعن موسوعة في الفقه المقارن كـ [المغني] لابن قدامة.
ومثل هؤلاء بناة حضارة، وأوعية معارف، لهم، وعليهم. وما أحوجنا إلى البراهين.
وكيف لا نطلب الدليل، والله سبحانه، وتعالى يقول :- {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
لقد اعتور المشاهد الأدبية، والفكرية مبدعون، ومنظرون، ومجترون، متفاوتون في مستويات الإدراك، وحسن الأداء.
والمنصف لا يركن في أحكامه إلى الحَدِّيَّة، والقَطعيَّة، والاطلاقات العامة. فالحضارات يكمل بعضها بعضا، وكل جديد له قديم. والمنبت من قديمه، كالمنبت من تاريخه.
والمشاهد بدون الاختلاف تضوى، ويصوح نبتها. وما نوده حسن إدارة الاختلاف، والعدل في الأحكام، والتفسح لكل الخطابات. وفي النهاية فـ[البقاء للأصلح]. وكم هو الفرق بين المداهنة، والصدع بالحق. {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}. {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}.
لقد انشقت مشاهد الأدب عن شعراء تنازعتهم المذاهب، والتيارات، والمستجدات الشكلية، والدلالية، فأوغلوا في الاستغراب، والغموض، والنثرية، والرمز، والأسطرة، وأدب الاعتراف، وإن برع بعضهم في إبداع الصورة، وشعرية اللغة، وتخطى بشعره إلى العالمية.
والمصداقية تقتضى استكناه أي منجز عربي، أو غربي، بالمناهج، والآليات القادرة على الغوص في أعماق المنتجات الفكرية، والأدبية، واستكناه منطوياتها الشكلية، والبنائية، والدلالية. ولايتأتى ذلك إلا باتساع رقعة الاهتمامات.
فهل أحد يجهل أساطين الحداثة، كـ[السياب]، و[البياتي]، و[الحيدري]، و [عبدالصبور]، و[دنقل]، و[درويش]، و[محمد الفيتوري]، و[حجازي]، و[عبدالرزاق عبدالواحد]؟
ودعك من المسرفين في النثرية، والغموض كـ[الحاج]، و[الماغوط]. إنهم يختلفون بمواهبهم، ومكتسباتهم. وقد قدموا الجميل، والأجمل، والردئ، والأردى. و راوحوا في الدلالة بين المسف، والأسف، والعميق، والأعمق.
والناقد العدل من يتوخى الإنصاف، ولا تأخذه بالحق لومة لائم.
ولك أن تقول عن النقاد مثل ذلك. فهل أحد يجهل [جابر عصفور]، و [كمال أبو ديب]، و[القط]، و [عز الدين اسماعيل]، و[سعيد مصلوح]، و[المسدي]، و[البازعي]، و[القرشي]، و[الغذامي]؟.
فهؤلاء، وأولئك تعلو نبرة الحداثة عند البعض منهم، حتى لا تجد عند أحد منهم رأفة، ولا رحمة بالتراث. وتخفت النبرة حتى يكونوا قاب قوسين، أو أدنى من الموروث.
إن لهم شطحات لا تليق بمكانتهم، وامكانياتهم، ولهم إخفاقات لا تتوقع من أمثالهم، ولهم تجليات تشهد بمبلغهم من العلم، والفن. فكم من شعراء، ومفكرين، ونقاد نكرههم، ولكننا لا نستغني عنهم.
والراصد، والمؤرخ لتلك المراحل المضطربة مطالب بالعدل، والإنصاف، وقول الحق.
وطغيان شعراء الحداثة، واستئثارهم بالمشاهد كافة، لا يمكن أن ينسينا [الجواهري]، و[أبي ريشة]، و[بدوي الجبل] و[البردوني] وشعراء المهجر، ممن جمعوا بين الحسنيين. أخذوا بالجديد، وتواصلوا مع التراث، وأثبتوا قدرة الموروث على الحضور المشرف.
لقد استُهلكت مشاهدُنا، واستُنزفت طاقاتُنا، بالفعل المُفتعل، ورد الفعل المُنفعل، منذ [حملة نابليون] بوصفها البداية الفعلية للاتصال بالغرب.
وللتدليل على فشلنا الذريع في استقبال الآخر، ضُرِبَ مثلٌ باتصال [اليابان] بالغرب، المتزامن مع اتصالنا به، وما حققه [اليابان] من إنجازات تَقَنِيَّةٍ مع احتفاظه بكل شعائره، ومشاعره، وطقوسه، ومسلماته، وصفاء العلاقات بين أطيافه.
فـ[اليابان] لم يأخذ من الغرب إلا ما هو بحاجة إليه، ولم يساوم على شيء من محققات شخصيته. فيما أخذنا نحن مالسنا بحاجة إليه، وتركنا مانحن بحاجة إليه.
لقد طاف بمشاهدنا عدد من المبادئ، والمذاهب، والظواهر الفكرية، والسياسية، والأدبية، التي ثوت في منشئها، وهي لما تزل تغذي الأحقاد، والضغائن فيما بيننا.
وكان الأجدى استقبالها كرافد، مكمل لما ينقصنا، لا كبديل نلغي معه كل ما نملك من قيم، ومبادئ.
والمتابع منا، ليس بحاجة إلى إعادة القول، واجترار ما هو معلوم عند أدنانا معرفة.
فعلى المستوى الأدبي تعاقبت على مشاهدنا اتجاهات، ونزعات، ونظريات، يعفي بعضها بعضاً، تتعلق بالشكل، والبناء، والدلالة، والصور.
ولمّا نبرح عليها عاكفين، ندافع عنها، ونؤكد أهليتها، ونسخر من منجزاتنا، ونستخف بقدراتنا على امتصاص نسغها.
فما من نظرية حطت بأرضنا، إلا وعمَّقت الخلاف، واستشرت في ظلها الشحناء، واستفحل التنازع. وكأنه ليس بالإمكان المواءمة بين الطريف، والتليد. والتراث، والمعاصرة.
ولو أن المتعالقين مع المستجد، أتاحوا فرصة للمتواصلين مع التراث، وأتقنوا معاً لغة التفاوض، وأساليب التداول، لكان بالإمكان تشكيل رؤية تكاملية، توفر لكل ذائقة ما يناسبها، ولكل ثقافة ما يلائمها. وحتى الذين يسعون إلى التوفيق، يوصمون بالتلفيق.
وما دروا أن المشاهد كالآفاق تتسع لكل أسراب الطيور.
وضيقوا العطن، هم قليلوا المعارف. وكيف يتأتى الثراء المعرفي، والفكري، والثقافي، والأدبي، وفينا من لا يعرف إلا [فقه الأحكام]، هذا حلال، وهذا حرام.
فأين نحن من رباطة جأش الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يستمع إلى ألد خصومه؟.
لقد أصاخ لـ[عتبة بن ربيعة] وكان سيداً مطاعاً في قومه. إذ قال عتبة يوماً، وهو في نادي قريش:- [يامعشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها].
ولما لقيه، استأذن من الرسول. فقال له الرسول:- قل يا أبا الوليد، أَسْمَعُ. وبعد إلقاء السمع. قال رسول الله:- أقد فرغت أبا الوليد؟ قال :- نعم. فعرض الرسول رؤيته بتلاوة آي من الذكر الحكيم. ولم يتعمد تسفيه الخصم، ولا تجهيله، ولم يقاطعه. بل دعاه بكنيته، وهو مؤشر إكبار، واحترام.
وبهذه المحاورة المتكافئة، غَلَبَ الحقُّ، وانْصاع الخصم، ولو بالثناء.
إننا نفقد القدرة على الاحتواء، وصناعة الأصدقاء، وإبلاغ الخصم مأمنه. وذلك مطلب إسلامي، مؤيد بالنص القرآني:- {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}.
مشاهدنا تستقبل فيوض المعارف، ومن الخير لنا أن نحسن استثمارها، والتفاعل معها، وإحسان الظن بالمحتفين بها، وتقديم مالدينا، بحيث نسهم في تشكيل الحضارة الإنسانية. تماشياً مع:- [بلغوا عني ولو آية].
خلاصة القول، ومعتصر المختصر:
امتلاك الثقة بالذات. والاعتزاز بالموروث. والحوار بنديَّة. واستقبال الآخر بقدر مناسب من الاحتفاء. وعدِّ ماعنده رديفاً، لا بديلاً. ومسانداً، لا مستبداً. والشعور بسعة المشاهد لأكثر من خطاب. وتوظيف القدرات، والإمكانيات للبحث عن الحق، لا لتكريس الانتصار.
بهذا نحفظ التوازن، ونعيش الحياة السوية، ونرفع عن أنفسنا داء التبعية، وغبار الذل. وندير الصراع بكفاءة عالية.
وآخر دعوى النقاد مقولة الدكتور [عبدالواحد لؤلؤة]، في كتابه [النفخ في الرماد]، إذ عدَّ الكتابة النقدية من باب النفخ في الرماد، أملاً في اكتشاف جذوة فكرية، أو فنية ، تمنح الطاقة، وتبعث الدفء المعرفي. ولكن الرماد يظل - أبداً - من نصيب الناقد، لأن قدره قضى أن يظل نافخاً.