د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يصف علماء الاجتماع الأسرة في بعض المجتمعات وعلى وجه الخصوص المجتمعات القبلية، كالمجتمعات العربية بالأسرة الموسعة، وذلك مقابل الأسرة النووية التي توجد في المجتمعات الأوربية وتكون محدودة العدد. والأسرة الموسعة تعني باختصار اتساع دائرة الأسرة لتشمل مجموعة أكبر من الأقارب: أبناء العم، وأبناء الخال القريبين والبعيدين، وأبناء عمومتهم وهكذا.. ولكثير من الأسر في مجتمعنا شجرة نسب لأسرها الموسعة يرسمها عادة النسابة فيها افتخاراً باتساع نسبها، وتتقبلها الأسرة وتفاخر بها تلقائياً عادة دون تدقيق لأن الهدف منها المفاخرة أولاً وحفظ النسب ثانياً. وقد تشكل الأسرة الممتدة عبئا اجتماعيا على الفرد في أمور كثيرة منها مسائل النسب والزواج وإلى آخر هذه الأمور. وبعض الأسر الممتدة أصبحت لديها مجالس تحافظ على تماسكها، وصناديق يتبرع فيها ميسورو الحال منها للمحتاجين فيها، فيما يشبه التكافل الاقتصادي وهذا أمر جيد. ولكن توسع الأسر بشكل كبير جداً يزيد من الانتماءات الأسرية والقبلية على حساب الولاء المجتمعي، وهو يتسبب في تفشي بعض الأدواء الاجتماعية كالواسطة، والمحاباة وغيرها.
وتمسك الأسر بتكوينها الممتد قوي جداً في مجتمعنا تحدوه المكانة الاجتماعية والرغبة في المفاخرة، علماً بأن الأجواء الاقتصادية قد أفرزت أسسا جديدة اعتمدها بعض الأسر للبروز الاجتماعي منها المال والمكانة المادية، بينما توارت أخرى كالمكانة العلمية أو الخلقية لعكس هذه الأسباب. فالطفرات المتتالية قد غيرت بشكل كبير في التشكيل الاجتماعي لدينا، وكذلك غيرت القيم الاجتماعية بشكل ملحوظ. فالمظاهر الأسرية أخذت تعتمد على الأمور المادية بشكل أكبر وذلك ببروز مظاهر التفاخر والبذخ والولائم في الداخل والخارج، مما أفرز ظواهر استهلاكية تضررت منها جميع الطبقات في مجتمعنا.
ولكن في المقابل، والأمر الأهم، هو انعكاس الطفرات الاقتصادية على الأسرة النووية، أي الأسرة الصغيرة داخل البيت الواحد: الزوج والزوجة والأبناء. لو أجلنا النظر فيها لوجدنا، أنه رغم تأكيدنا الديني والاجتماعي والبلاغي على أهميتها، وتأكيدنا على دور الأم (طبعاً دون الأب) في إعداد الأجيال، إلا أن ما نلاحظه فعلاً أمر مختلف جداً، فقد تغير شكل الأسر بشكل جذري في العقود الأخيرة مما خلف انعكاسات كبيرة على تكوينها وتكوين أبنائها، وكذلك على المجتمع ككل، فالمجتمع هو الأسرة الأكبر ليس إلا.
أول العوامل المؤثرة في هذه الأسر هو دخول الخدم المنزلي فيها، فأخذت الخادمات الكثير من المسئولية المنزلية ليس من الأمهات فقط ولكن أيضاً من الأبناء والبنات. فالعاملات المنزليات اللاتي استجلبن ليساعدن في عمل المنزل لخروج الأمهات للعمل أصبحن يقمن بالعمل بشكل شبه كامل، مما ولد نوعاً من الاتكالية المرضية. وقد يجادل أحدهم في أن ذلك مقبول أيضاً لإراحة الأمهات وبقية أفراد الأسرة، وقد نسلم له بذلك، لكن التعود على الراحة التامة والاعتماد على الاتكال والتواكل له ثمن قد يكون غير مرئي لكنه باهظ. فالتشجيع على الإهمال في بعض الأعمال الشخصية والمنزلية ينطوي على أمور تربوية غاية في الأهمية، والتقصير فيها له آثار سلوكية خطيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر نشوء جيل فوضوي غير مكترث يتوقع أن يعمل له الآخرون كل شيء. فهو يأكل في المطعم ويترك طعامه على الطاولة، يأكل في صحراء، أو منتزه، أو شارع ويلقي ببقايا الأكل حيث يجلس في الحديقة أو الشارع حتى ولو كان برميل النفايات أمامه. والأخطر من ذلك أنه لا يدرك عواقب تصرفاته هذه فهو لا ينظر لأبعد من إشباع حاجته الظرفية. ولو دخلت حتى لمخادع نوم شبابنا لشاهدت فوضى مثيرة للاستغراب والاستهجان لأنه تعود أن ترتيبها مهمة غيره. وربما كان لهذه الفوضى السلوكية انعكاسات عقلية تؤثر على سلوكياته الأخرى في الحياة: العمل، المواظبة، الترتيب، التفكير المنهجي الخ.. ولذا علينا ألا نستغرب استهتار شبابنا في كثير من أمور حياتهم ولا نستغرب ضجرهم المستمر.
الأمر الآخر الذي لا يقل خطورة هو أن الأطفال والشباب تعودوا الأمر على أشخاص أكبر منهم سناً وأحيانا زجرهم، فلم يعد لفارق السن أهمية لديهم. وأصبحوا لا يكترثون في حياتهم العامة باحترام الأكبر سناً مهما كان، سواء عاملا في الشارع، أو سائقا في طريق، أو جالساً في مكان عام. فاختفت تدريجياً قيمة اجتماعية مهمة طالما حافظنا عليها في مجتمعاتنا وهي احترام الأكبر سناً، فتجد الشاب يتقدم الأكبر منه سناً في المداخل والمخارج ويزاحمه فيها، وقد- لا سمح الله- يلاغيه ويتلفظ عليه ولا يرى ضيراً في ذلك. نشاهد ذلك وللأسف حتى عند الخروج من المساجد، أو المدارس، أو الجامعات والداوئر الحكومية أو غيرها. وربما نستطيع سبر حالات الفوضى الني نعيشها في شوارعنا، وفي مواقفنا، وحياتنا عموماً لحالة الفوضى التربوية المنزلية ليس فقط في تولي الخدم تربية الأطفال ولكن في اعتقاد الأسر أن اتكال الأبناء على الخدم في كل شيء ليس له انعكاس سلوكي مستقبلي عليهم.
الأمر الآخر الذي لا يقل خطورةً عن سابقه هو وجود السائقين المنزليين الذي سببوا شرخا عميقا في الأسر السعودية. فالمرأة والأبناء يقضون وقتاً طويلاً خارج المنزل في العمل أو التسوق ويكون ذلك عادة بصحبة سائق أجنبي وليس بصحبة معيل الأسرة، حتى صار بعضهم يحس أن الناس تستهجن رؤيته مع أسرته في مكان عام. وهذا قد يساعد على خلق حالة انفصال شبه تام بين جناحي الأسرة الأم والأب. فتعودنا رؤية النساء في أسواقنا بصحبة سائقين دون رجال، مع العلم أن التسوق وارتياد الأماكن العامة هي من الأمور المعتادة التي تجمع الأسر في المجتمعات الأخرى ليس للمتعة بل للضرورة، فالطفل يحتاج أباه وأمه معاً في كثير من الأحيان وليس أحدهم فقط. والطفل يتعلم التعامل مع الجنس الآخر من محاكاته لتعامل والده مع أمه أو العكس. والطفل يتعلم أيضاً من حساسية والده من المشي مع أمه في مكان عام. وللأسف فإن السائق في أحيان غير قليلة يتقمص دور الأب لا شعورياً، أب بلا صلاحيات كاملة! يحمل الأمتعة، يحمل الأطفال ويراقبهم، يرد على طلباتهم الخ. ولذا يمكن القول إن كلفة استقدام السائقين لا تقتصر على الأمور الاقتصادية، والاجتماعية الواضحة بل ولها كلفة أسرية غير منظورة أكثر خطورة. وهي من أحد أسباب شرخ الأسرة السعودية كما عهدناها.
ومن الآثار الاجتماعية الخطيرة لتفشي العمالة المنزلية بروز ظاهرة الاستراحات سواء للرجال أو النساء. فوجود الاستراحة في أوقات معينة محددة ومحدودة أمر قد يكون صحيا، ولكن إدمان بعض الرجال على الاستراحات بشكل دوري، وفي أوقات كان يجب عليهم التواجد فيها في منازلهم مع أبنائهم أمر له عواقب تربوية وسلوكية غير محمودة. والأسوأ من ذلك أنه انتشرت مؤخراً ظاهرة الاستراحات للأبناء، فأصبحت الأسرة مشتتة ولا تتواجد إلا لماماً. مع أن التواجد الأسري مهم جداً لكي يتعلم أفراد الأسرة أسلوب التعامل الأسري، وهي مهمة للتلاحم العاطفي وللتعود على تحديد الأدوار داخل المنزل.
وقد تكون الفوضى الأسرية التي نعيشها السبب الأول في حالة الفوضى المجتمعية التي نعيشها. وهي السبب الرئيس للتفكك الأسري، ولجوء الأبناء للأقران والمؤدلجين، وكذلك لحالات العزوف عن الزواج، أو تفشي حالات الطلاق بعد الزواج، فليس هناك أسرة بالمعنى المفهوم يتعلم منها الأبناء التعامل الأسري. وزاد الطين بلة انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت كل يغني على ليلاه في الأسرة في حال انسجام وجودي تام، ولكن بنسبة تواصل شبه معدومة بينهم. ونحن وللأسف لم نهتم بالحفاظ على الأسرة النووية الأكثر أهمية لتربية أبنائنا واهتممنا بالأسرة الموسعة وشجرة الأسرة لانعكاساتها المظهرية الاجتماعية. وفي المقال القادم سأتطرق لتأثير التغير المجتمعي على الشكل الأسري في المجتمعات التي سبقتنا والتي أعتقد أننا لن نكون استثناءً منها.