د. حسن بن فهد الهويمل
عيون الشعر العالمي كأي ظاهرة حضارية، تظل قابلة لقراءات متعددة، لانها تملك محققات التألق.
وهي بهذا الغِنَى، وروعة البناء رفدٌ لما خَلَفَ، يستمدُّ اللاحق منه قوالبه، ومعانيه، وصوره، وأفكاره، لينتج عيوناً أخرى.
وقد اختلف النقاد في توصيف الاسترفاد، بين مصطلحات [السرقة] و[الأشباه والنظائر]، [والتأثر]، و[المعارضات]، و[النقائض]، وأخيراً [التناص]. بوصفه مصطلحاً مهيمناً.
والقول بعالمية الإبداع، لاتمليه العواطف، ولا تحققه الرغبات. إنه قول تفرضه السمات، وتعززه الإمكانيات.
والتميز هنا، ليس قصراً على الإبداع القولي. فالعلماء والمفكرون، والساسة والاقتصاديون الاستثنائيون، يمثلون التألق، والتفوق، لمن جاء بعدهم. بوصفهم قدوة.
إذ بقدر ماتتوفر عليه القصائد العصماء من حضور أزلي، يفرض نفسه، يتوفر الشعراء، والعلماء المتميزون علي مكانة لاتنازع، وحضور يتجدد.
ومرد ذلك إلى الثقة بالنفس، والجسارة على المغامرة، واستبعاد مقولة: [ماترك الأولُ للآخر شيئا]. واستبدالها بـ[كم ترك الأول للآخر]. ومما يؤثر عن [الملك عبدالعزيز]، رحمه الله، أنه لمح مقولة:- [ونفعل مثلما فعلوا]، فعدلها إلى:- [ونفعل فوق مافعلوا].
في أعقاب جلسات [قسم الأدب] في الكلية كل أسبوع، يلتف البعض من الأساتذة، من مختلف الجنسيات، والمشارب الثقافية. حول بعضهم في مكاتب الكرماء منهم، يَحْسُون ما لذ من المشروب، ويتذوقون ما طاب من المأكول، ثم لاينتشرون، بل يتجاذبون أطراف الأحاديث حول بعض القضايا، والظواهر الأدبية، والفكرية.
ولأن البعض منهم مأخوذ بواحدية الرؤية، فإن نبرة الاختلاف ترتفع حول شاعر، أو مفكر، أو ناقد، أو مقطع من قصيدة. وكم ينفض سَامِرُنا غضباً، ويبارح البعض منا الاجتماع، وكأن حماه قد انتهك.
والمسألة لا تعدو تفضيل شاعر على آخر، أو مفكر على مفكر، أو قصيدة على أخرى.
وفي الجلسة التي تلي هذا الشقاق، أتوقع تَصَوُّحَ الاجتماعات الجانبية، ولزومَ كل أستاذ مكتبه، فإذا بالجميع ينتهبون الخطى،بعد جلسة القِسْم، وفي جعبة كل واحد منهم أكثر من تساؤل، وأكثر من رأي.
وتعود حليمة إلى عادتها القديمة. فلا أحد يتفسح لأحد، ولا أحد يُقِرُّ أحداً على رأي. من الظواهر الحسنة ألا نتفق، هذه قضية مُسَلَّمة، وويل لكافة المشاهد حين يبادر أهلها التسيلم لبادي الرأي. والأحسن من هذا أن ترحب الصدور، وألا يفسد الاختلاف للود قضية.
ولن تكون ظاهرة الاختلاف حميدة حتى يتوفر المختصمون على ثلاث خصال:-
الأولى:- البراعة في إدارة الاختلاف.
الثانية:- البحث عن الحق دون الانتصار.
الثالثة:- امتلاك الآلية، والمنهجية، والمعرفة الكافية.
ودعك من تفادي الإقصاء، وتجنب الاشتغال بالذوات، دون القضايا.
لا أريد تحرير محققات الحوار الحضاري. فذلك شأن له مجاله، ولو شغلنا به، لألهانا عما سواه.
ولا أحسب أحداً من هذا الصنف يجهل متطلبات مثل هذا الحوار. فأساتذة الجامعات خير من يتوفر عليها، أو هكذا أتوقع.
في كل جلسة [لوبية] تَنْبعثُ القضايا. الواحدة تلو الأخرى، وكل قضية يَشُدُّك إليها تشعبُ الأرآء حولها، وقد تلهي المختصمين عمَّا سواها، لأنها قضايا حاضرة التعليم الجامعي. وقد يكون البعض منها من مفردات المقررات. وقد تستأثز بعض القضايا بأكثر من جلسة.
ولقاءاتنا الهامشية أسبوعية، ومع هذا تظل أطراف الأحاديث عالقة بالأذهان. حتى لكأننا ذلك الحاج العفوي الذي شغل النقاد ببراعته في وصف الرحيل:-
[وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنَ مِنىً كُلَّ حاجةٍ
ومسَّـحَ بالأركانِ مَنْ هو ماسحُ
وشُدَّتْ على دُهْمِ المَهَارَى رِحالُنا
ولم يَنْظُر الغادي الذي هو رائحُ
أخـذنا بأطـرافَ الأحاديث بَيْننا
وسَـالَتْ بِأَعْناقِ المُطِـيِّ الأبَاطِحُ]
ولأن الأهم من القضايا، والظواهر الفكرية، والأدبية تعيش حضوراً متطاولاً، فإن لها ذكرياتها المراوحة بين المريح، والمتعب. والمفرح، والمترح.
وأساتذة الجامعات مروا بها طلاباً، وأساتذة: مشرفين، ومناقشين، متفقين، أو مختلفين، وفي ذلك مافيه من السلب، والإيجاب.
أذكر على سبيل المثال [سينية البحتري] التي شغلتني طالباً في مختلف المراحل، وأستاذاً مَرَّ بكل المستويات.
كنا في [كلية اللغة العربية] في [جامعة الأزهر]، قبل نصف قرن نُخَوِّفُ بعضنا بـ [سراحين اللغة] وهم ثلاثة إخوة [عبداللطيف، وعبدالسلام، ومحمد] كانت لهم صولات، وجولات في كافة معارف اللغة، وعلومها. رحمهم الله جميعاً.
وقد درست في مرحلة [الماجستير] في الأزهر [السينية] على الدكتور [عبدالسلام سرحان] وهي دراسة موسعة، تشمل اللغة، والنحو، والصرف، والبلاغة، وسائر جماليات الشعر.
ولو دُرست النصوص الإبداعية بالعمق، والشمول الذي درسنا فيه [السينية] لما ضاع دم الأدب العربي القديم بين قبائل الحداثة، والذواقين.
كنا نحفظ النص عن ظهر قلب، ونتقن إعرابه: مفردات، وجملاً، ونجرد كلمات النص، ونتقصى الدلالات: الوضعية، والسياقية، والمجازية، ونستخرج الصور البيانية، ونحدد الأشوط الدلالية، ونشير إلى سائر الوحدات: العضوية، والموضوعية، والإيقاعية، والدلالية، واللغوية، والنفسية.
وكنت أحسب دراستها على عَلَّامة كـ[السرحان] نهاية مايمكن الوصول إليه، وماكان في تقديري احتفاظ النصوص المتميزة بفضلة لمن يأتي بعده.
وكيف تتأتى الإضافة. والأستاذ قد نفل [السينية] بسبعين صفحة من خلاصة المعارف النحوية، والصَّرفية، واللغوية، والدلالية، والبلاغية، والعروضية. وتقصي ماقاله الشارحون، والنقاد من قبل، ومن بعد.
ولكن النص الثري، المراوغ. النص الذي توفرت على انتاجه موهبةٌ شعرية، وتجربةٌ ثرية، وثقافة عميقة، ومعرفة بمضايق الشعر، لا يمكن أن يَحْسِم أمره جيل بحاله.
طوينا سنوات التحصيل، وودعنا مقاعد الدراسة، وعدنا إلى النص أساتذة، فإذا هو معين يتدفق، وثراء يتجدد.
يكاد الشراح، والدارسون يُجمِعون على أن [السينية] قصيدةٌ وصفيةٌ، ليس غير، لأن [البحتريَّ] أبدع في وصف [إيوان كسرى]. أيما إبداع. حتى أعطى صوراً [دراماتيكية].
وجاء بما لم تستطعه الأوائل. والحق أن الوصف جزء ضئيل في سياق الهموم التي تُساور الشاعر.
القصيدة ذاتية رثائية، جمعت بين حالين:-
حالٍ دخلت ذمةَ التاريخ. هي حالُ [الإيوان]. وحالٍ تتشكل - آن ذاك - على لسان الشاعر، لتكون جزءاً من التاريخ، هي حالُ [البحتري]. في زمن الانكسار.
مَرَّ [الإيوان] بعز لا يضارع. ومَرَّ [البحتري] بعز لا يُتَخَيَّل. وضاع عِزُّ [الإيوان]، وضاع عز [البحتري] فالتقت الصورتان على أمر قد قدر.
وبوصف [الإيوان] يكون البحتري قد وصف ما آلت إليه أحواله، بعد قَتْل مثله الأعلى، ومصدر عزه، وتألقه، الخليفة العباسي [المتوكل].
كانت تلك قراءة حديثة، لم أستكملها بعد، وإن زَوَّدْتُ طلابي بشذرات منها. أحسب أنها أعطت النص بُعْداً جديداً، لم يكن له من قبل. ولقد تكون رؤيتي محكومةً بالمثل العربي:- [كلُّ فتاة بأبيها معجَبة].
أخلص من كل هذه الأمثلة المتواضعة إلى القول بكل ثقة:- نمو الحضارات، وتكرسُها يتحقق بجسارة القراءآت، وسباحة القارئ ضد التيار. فالنمطية، والرتابة ، والتهيب لاتضيف شيئاً:-
[وَمَنْ يَتَهَيَّبْ صُعودَ الجِبَالِ
يَعِشْ أبَد الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَرِ]
فلنكن واثقين من أنفسنا، ومن حضارتنا، حين تنشق المشاهد عن قراءٍ جريئين، مستفزين، يحاولون استخدام القنابل المضيئة، لتنوير عتمة النصوص.
وكيف لانستبطن هذا الهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:- [بلغوا عني ولو آية، فربَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع]. ولم يقل أَلْزِمُوا الناس بما تفهمون، واحملوهم على ما ترون.
مهمة السامع التبليغ، وتمكين المتلقي من تشكيل رؤيته، ومن حق المتلقي المقتدر أن يقول:- [هم رجال، ونحن رجال].
و[النص] بوصفه رسالة يمثل القاسم المشترك بين [المرسل] و[المتلقي]، ومن ثم أوجف النقاد عليه بخيلهم، ورجلهم، ضل من ضل، واهتدى من اهتدى. ولايزال العلماء، والمفكرون مختلفين. وداء الحضارات تسيد الوجلين، الشكوكيين، الماضويين. أو سيطرة المتمذهبين المتعصبين.
اختلاف الآراء بين الفرقاء في النهاية كما سَقْطُ الزَّنْدِ. يشعل الفتيل، وكلما أضيء الطريق، مشى الفرقاء فيه. وإذا أظلم عليهم قاموا، بانتظار من يحمل مصباحاً في زجاجة كأنها كوكب دري.
أعرف أن ثمن المغامرات باهض، وأن بعض القراء أساء من حيث يريد النفع. ولكن لابد مما ليس منه بُدُّ.
مالا أوده، التسليم المطلق، أو الرفض المطلق لكل من يملك الجسارة على القول، أو الفعل، دون برهان.
وما أوده، الخلوص من هاجس نهاية التاريخ. فنحن أبناء حاضرنا، نمتلك تشكيله، ولن نأخذ نصيبنا من حقنا في الوجود الكريم، إلا إذا صنعنا قناعاتنا بأنفسنا، ولم ننتظر الإملاء.
وسبيل ذلك كله القطع بأن هناك قراءةً لم تأتِ بَعْد. تكرس التعددية، والقبول بها.
يقول [أنيس منصور]:- «أحب الذي يقول: أنا مختلف.. أو سوف أكون مختلفاً. لست نسخة أخرى لأحد.. أو ظلاً لأحد.. أو في عباءة أحد.. أنا كما أنا».