د. عبدالحق عزوزي
كما تم التأكيد لذلك في مقالة الأسبوع الماضي، من المظاهر التي لابد من تسجيلها، والتي تثبت التواصل التاريخي الدائم الذي كان بين الشمال والجنوب، أن ملوك المغرب كانوا يعنون بطبع إنتاج علماء الصحراء منذ دخلت المطبعة في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. والكتب التي طبعت لعلماء الصحراء هي أكثر من أن يشار إليها، ويكفي أنه طبعت كتب كثيرة لأحمد بابا التمبوكتي، والمختار الجكني، وعبد القادر الشنقيطي، ومحمد الصغير الشنقيطي، ومحمد النابغة الشنقيطي، ومحمد فال الديماني، وعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي... إلخ. أما ما طبع للشيخ ماء العينين ولأفراد أسرته، فهم أكثر من أن يعد أو أن يستعرض هنا..ودائما في نطاق هذا التواصل، كان الأدباء والشعراء المغاربة في الشمال يتوجهون بمدائحهم إلى بعض الشخصيات الصحراوية، ولا سيما ماء العينين. فكثيرون هم شعراء الشمال الذين مدحوا الشيخ ماء العينين، كالطاهر الإفراني، وأحمد بن المواز، وعبد الرحمن بن زيدان، وأحمد بن المامون البلغيثي، وأحمد سكيرج، وعبد الله القباج. ومدائحهم موجودة في دواوينهم وفي بعض المصادر، لا سيما في «الأبحر المعينية» الذي جمعه محمد بن ماء العينين والذي حققه الأستاذ الدكتور أحمد مفدي.
ومن المظاهر التي أشار إليها العلامة عباس الجراري، الرسائل التي كانت تتبادل، وخاصة تلكم التي كان يوجهها علماء الصحراء إلى ملوك المغرب. وهي رسائل كثيرة لا مجال لحصرها، يكفي التذكير ببعضها، مثلا رسالة الشيخ ماء العينين إلى المولى عبد العزيز يطمئنه فيها على أحوال الصحراء ويبلغه ولاء قبائلها.
وبمناسبة الحديث عن الولاء وفي إطار موضوع الثقافة، لابد من الإشارة إلى جانب مهم وأساسي، وهو جانب البيعات التي كانت ترفع إلى ملوك الدولة، لأنه من المفروغ منه ومما يدخل في الإطار السياسي الذي يجب تناوله.
وفي موضوع الرسائل كذلك، تذكر رسالة من الشيخ ماء العينين إلى المولى عبد العزيز، يطلب منه إمداد المجاهدين الصحراويين، لمواجهة تحرك القوات الفرنسية نحو أدرار. ويطلب منه أن يستخلف نائبا عنه لقيادة الجهاد في الأقاليم الصحراوية. الرسائل كثيرة من هذا النوع. ويكفينا هنا أن نشير إلى الدراسة الهامة التي أنجزها الأستاذ الدكتور محمد الظريف، فأطروحته عن الرسائل التي تدخل في هذا الإطار كثيرة، ويمكن الرجوع إليها للاطلاع أكثر.
ومن المظاهر التواصلية التي نريد الإشارة إليها، تبادل الإجازات العلمية بين علماء الشمال والصحراء. فهناك العلماء الذين كانوا يعطون إجازات أو يتلقون إجازات، وهناك الذين كانوا يتدبجون، أي يتبادلون الإجازات فيما بينهم. وتكفي الإشارة إلى بعض الإجازات المبكرة: محمد بن محمد بن أبي بكر التواتي (المتوفى سنة عشر وألف للهجرة، أي في أوائل القرن الحادي عشر)، وأحمد بن القاضي تبادلا الإجازة بينهما. والتواتي هذا كان مبرزا في الفقه وفي الحديث. كذلك يشار إلى أسماء أخرى، كسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الذي أقام في فاس، وتلقى على البناني محشي عبد الباقي، وتلقى البناني عنه أيضا. ويشار كذلك إلى إجازة محمد سداتي الكنتي لمحمد الأماني السوسي. وهكذا تبدو اللائحة طويلة.
ويمكن هنا أن نشير إلى تبادل الأحاجي وتبادل الألغاز، وهذا باب معروف في الأدب العربي. وتكفي الإشارة هنا إلى عبد الله العلوي المعروف بابن رازكة - المشار إليه سابقا - فقد وجه إلى علماء فاس وإلى عالم بالذات وهو ابن زكري، وجه له لغزا بأبيات في قوله تعالى من سورة يوسف: (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه)، لماذا لم تقل الآية: من وعائه؟ للتمثيل أقرأ جزءا منه إذ يقول:
أسائلكم ما سر إظهار ربنا
تبارك مجدا: من وعاء أخيه؟
فلم يأت عنه: منه، أو من وعائه
الأمر دقيق جل ثم يخيه
أجاب على هذا اللغز مجموعة منهم محمد بن سعيد اليدالي الديماني الذي يقول:
فلو قال فرضا ربنا: من وعائه
فذلكم بعد التفكر فيه
يؤدي إلى عود الضمير ليوسف
فيفسد معناه لمختبريه
كذلك إلى جانب تبادل الألغاز، كان هناك تبادل الفتاوى في الفقه وغيره. وعندي أمثلة كثيرة لا أريد أن أطيل بها، على نحو ما وقع في القرن العاشر بين أبي محمد عبد الله العصنوني المتوفى عام سبعة وعشرين وتسعمائة، ومحمد بن عبد الكريم المغيلي المتوفى سنة تسع وتسعمائة حول نقض ذمة يهود توات.
ولعلنا ألا ننسى في هذه المظاهر التواصلية، تبادل الإخوانيات بين الشعراء في المناسبات. فمثلا ابن رازكة - وهو علم من الأعلام لا يمكن أن نتحدث عن التواصل دون أن يكون حاضرا بواجهات متعددة - يتحدث عن جلسة مع بعض علماء أهل مراكش وما كان فيها من مساجلات، وأيضا محمد البيضاوي الشنقيطي الذي أقام هنا في الرباط وله مساجلات مع عدد من شعراء الفترة.
ثم إن مما يثبت كذلك هذه الحركة التواصلية، ما كان بين الأدباء والشعراء والملوك العلويين. يكفي أن أشير إشارة لها دلالتها متمثلة في القصيدة التي قالها محمد البيضاوي الشنقيطي في رثاء المولى يوسف ومدح المغفور له محمد الخامس إذ هي في نفس الوقت رثاء ومدح. والأستاذ عباس الجراري في بعض دراساته يعتبر أنها أول قصيدة شعرية قيلت في محمد الخامس رحمه الله، ونعرف أهمية عيد العرش وأهمية ما قيل بمناسبته في عهد الحماية. ويكفي أن نقرأ مطلع هذه القصيدة:
ذهب الإمام أبو المحاسن سيدا
ومحمد كفؤ الإمام السيد
أما بعد هذه المرحلة، فكثيرون هم الشعراء الصحراويون الذين قالوا قصائد في المغفور له محمد الخامس، وفي المغفور له الحسن الثاني، ثم في جلالة الملك محمد السادس. والنماذج كثيرة والدواوين متعددة وبعضها منشور. ولا نريد أن نشير إلى الأسماء حتى لا نكون مقصرين.
إذن من كل هذا نفهم الترابط والصلات بين كل مكونات المجتمع المغربي عبر العصور، فالهوية الوطنية بهذا متمثلة في مقومات ثابتة وقيم ناظمة لها، بحكم التشبث المتواصل بها عبر العصور والأجيال، بحب صادق وبروابط فكرية ونفسية تشد هذه الأجيال وتجعل الكل يتفاعل معها، بإدراك عميق وحتى بدونه، أي بعفوية وتلقائية. وهي في ثباتها، أقصد في ثبات عناصرها الجوهرية ومكوناتها الأساسية، قد تتعرض لبعض عوامل التطوير، إن لم أقل التغيير الذي تحتمه طبيعة الكون المتعدد والمتنوع، ويفرضه تفاعل الذات مع نفسها ومع الآخر، مما يحقق البعد الإنساني الذي لا شك يغني تجارب الهوية، ويتيح لها مجالات حيوية خلاقة تقوي فيها دوافع التفتح والانفتاح، وإمكانات تبادل التأثر والتأثير.
ومن ثم فإن الهوية هي التي تحث المشدودين بها وإليها على بناء الوطن وتنميته، والعمل على تقدمه والذود عنه وحفظ كرامته، وفتح آفاق مستقبله، وتجاوز الإكراهات التي تعتريه، ومواجهة العراقيل التي يصادفها في مسيره، والتصدي للأخطار التي تهدده، خارجية وداخلية، وخاصة تلك التي تكون نابعة من سوء فعل الذات، حائلة دون صون عزة أبناء هذا الوطن واحترام إنسانيتهم، وضمان نيل ما لهم من حقوق وأداء ما عليهم من واجبات، في ظل أحوال مستقرة وحكامة نزيهة، وعدالة تتحقق بها المساواة القائمة على تكافؤ الفرص وكذا التكافل بينهم، من غير أي شكل من أشكال التمايز والتفاضل، إلا ما كان راجعا إلى مستوى الدفاع عن مكونات الهوية وما تفرضه درجة هذا الدفاع من جهود وتضحيات لا شك أن الناس في فهمها متيقنون.