د. حسن بن فهد الهويمل
ما حطت رحالي في بلد، إلا رحت أسأل عن مكتباتها، لأنها وعاء الحضارات، وكَشَّاف العصور الغابرات.
مَثَلِي – مع الفارق – مَثَلُ الشاعر الشعوبي الماجن [أبي نواس] الذي أوآلِيْه شاعراً، وأبرؤ منه فيما سوى الشاعرية، وذلك حين يقول :-
[وَرُحْتُ أَسْأَلُ عَنْ خَمَّارَةِ البَلَدِ].
في صالات المغادرة في المطارات [أكشاكٌ]، ومحلاتٌ لتسويق ما يهم المسافرين على مختلف هواياتهم، وحاجاتهم.
ولعلم الجميع بالغلاء الفاحش في المبيعات، فإن المادة تهون، ويرخص ثمنها على المسافر. فالحياة الباذخة تكون في السفر مختصرة في حقيبة المسافر التي يجرها بيده.
على أنه فيما بين الحضور، والإقلاع يُنِيْخُ الفراغ بِكَلْكَلِه على أنفس المنتظرين الوجلين، ولا تخفف وطأة الفراغ إلا القراءة.
في أحد [الأكشاك] في مطار [جدة] وجدت عملين إبداعيين للشاعر المتألق [عبد الرزاق عبد الواحد ت 2015]، وهو [صابئي] عراقي، يَعُدُّ نفسه في شعر الحكمة ثالث ثلاثة:- [المتنبي]، و[المعري]، وهو.
وكنت قد عرفته من قبل، حين شاركت في فعاليات [المربد] في العراق، على مدى ستة أعوام متتالية.
و[المربد] من أسواق العرب المشهورة، ومناسبتها تعد تظاهرة ثقافية قُصِد منها طرد ُشبح الحرب.
ومَثَلُ الشاعر في [المربد]، كمثل [خلف بن هذال] في [مهرجان الجنادرية] مع الفارق اللغوي.
لأنه يلقي في كل عام قصيدة عربية، تهز المشاعر. يمجد فيها مثله الأعلى [صدام حسين] عفا الله عنه. ويحشد مشاعر الأمة لمواجهة المد الصفوي.
وقد جمع قصائد هذه المناسبة السنوية في ديوان سمّاه [المَرْبَدِيَّات]، وهو أحد العملين الذين اشتريت من [كشك] المطار .
ومثلما ضاع [البحتري] بمقتل مثله الأعلى [المتوكل]، ضاع [عبد الرزاق عبد الواحد] بمقتل مثله الأعلى [صدام حسين]، فـ[المتوكل] غدرت به حاشيته من الأتراك، و[صدام] غدرت به غَطْرسته، ومكيدة [بوش الأبن].
وبقتل المَثَلَيْن، هام كُلٌّ من الشاعرين على وجهه، لا يلويان على شيء. ذاك ذهب إلى [المدائن]، وهذا نجى ببدنه متنقلاً هنا، هناك. ليكون عبرة لمن خلفه.
في [المربد] يفصلنا عنه زَهُوُّه، وانتفاخه، وطوفان العز الذي يجتاحه، حتى لا يظفر أحد منا بالسلام عليه. وإن كان لوفد المملكة منزلةٌ خاصةٌ، بوصفها الداعم الأقوى.
وبعد أن زال مجده، وحطت رحاله لاجئاً في [الأردن]، انطفأ كلُّ شيءٍ عنده، وعاد إلى حجمه الطبيعي صعلوكاً من صعاليك الشعراء المسترفدين:-
{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
وآخر لقاء معه كان في [مهرجان الجنادرية] في الرياض، على الرغم من إقذاعه في هجاء المملكة، الذي تضمنته مجموعته الشعرية، التي طبعها عام 1991م.
ولأن المملكة تحرص على صُنْع الأصدقاء، فقد أغمض المسؤولون عمَّا بدر منه، وأثبتوا له، ولمن هم على شاكلته من حزبيين، وطائفيين، وعملاء، أنهم فوق الترهات.
وتلك خليقة اسْتَنَّتْها [مجموعة المشورة] في [المهرجان الوطني للتراث والثقافة] التي شَرُفْتُ في العمل فيها على مدى عقدين من الزمن.
وكم من مناوئٍ لسياسة المملكة، ومختلف معها اختلاف تنوع، أو تضاد. جَسَّر [مهرجان الجنادرية] الفجوات بيننا، وبينه، وبَرَعَ في استلال سخائمه، وأثبتَ بالمشاهدة أننا خير مما يظن.
فمن المناوئين للمملكة من رجع إلى الحق، وآخرون أصروا، واستكبروا استكبارا.
وتفاوت الآراء، وتعدد المواقف، واختلاف المشارب من سنن الله الكونية، التي لا تتبدل، ولا تتحول، وامتعاضنا ليس لمجرد الاختلاف، ولكنه على افتراء الكذب.
والبارع من يحسن إدارة هذا التفاوت، وذلك التعدد، لا من يحلم بحسم الاختلاف. أو استبعاده من تفكيره. والأبرع من يتمكن من احتواء المخالف، أو تحييده، تفادياً للصدام.
صاحب [المربديات] الذي كرَّسَ لغة الحرب، مات كمداً على ما آل إليه مهد الحضارة الإسلامية [بغداد الرشيد]، و [قلعة الصمود]. وأحسب أن صوته الندي هو أحد الأصوات التي نسجت مهاد الفتنة، وزجَّت الأمة في أتونها.
لست أدري لماذا طال هذا المدخل، حتى صار كليل العاشقين، ولكنني مقتنع بأنه إضافة مهمة، عسى أن يحدونا تفهمُ الأوضاع الخاطئة السائدة إلى التسامح لاحتواء الآخر، والاعتبار بمصير الظلمة، إذ لايعتبر إلا ألوا الألباب، ولا يعقل الأمثال إلا العالمون.
يقول المجربون:-
إن الوفاق أقل تكلفة من الحرب. وتلك مُسَلَّمة لا ريب فيها. والانتصار - بوصفه مطلباً رئيساً - لا يحقق مكتسباتٍ بزنة الخسائر: الحسية والمعنوية، التي تخلفها الحروب، لأنها خسارة للطرفين. فذيولها أسوء منها، والأشد سوءاً ثقافة الكراهية، ولغة العنف، وهما منتج طبيعي للحرب.
وما تنفقه الدول الغنية على التسلح، يكفي لتوفير الغذاء، والدواء، والكساء، والإيواء للمعوزين في العالم، ومن هم تحت خط الفقر، أو على شفير المجاعة.
وسباق التسلح بلغ ذروته في قوة الردع النووي الفتاك.
- فهل برع أحد في صناعة الوفاق، والتوفر على آلياته، ليعم الرخاء؟
الشاعر [عبدالرزاق عبدالواحد] بعثي، انقلابي، قومي، صابئي. وإن كان يعد نفسه شاعر الحكمة، وما هو كذلك، إذ شاعر الحكمة [زهير بن أبي سُلمى] الذي حَذَّر من الحرب، وأطفأ لظاها. أما هو فقد نفلها بعيون شعره مؤججاً، ومُجَيِّشا، ومتطاولاً، على من حوله من عرب، وعجم.
قرأت فيما قرأت، وأنا أنتظر مماطلة الخطوط في مواعيدها قوله:-
[كَبُرْنَا فَصَارَالمَوْتُ لُعْبتَنا الكُبْرى
فَلا تَعْذِلينا،إنها لغةٌ أُخْرَى
ولا تَعْـذ لينا، كلُّ حَيٍّ لـه مدى
وأَمَّا مَدَاَنَا فالرَّصَاصُ به أدْرَى
سَلَكْنا دُرُوبَ الهَولِ يَلْظَى جَحيمُها
فَكُنَّا بِهَا مِنْ كُلِّ ضَارِيَةٍ أَضْرَى]
وكل مجموعة [المربديات] على هذه الوتيرة تهييج، وتجييش، واستعداء، وهجاء، ولغة حرب، تأكل الرطب، واليابس. وتُشيع ثقافة الحرب، التي تشوي الوجوه. فبئست تلك اللغة، وساءت مرتفقا.
فكرة الحروب كافة لم تدرس من تخومها [لأيديولوجي]، ودوافعها المتعددة، وأجوائها المشحونة بالتوتر، وإنما قدمت كأحداث تاريخية.
..................................................يتبع