ياسر حجازي
تبدو الكتابة بحالها القائم الآن في مأزق كبير جدّاً في مواجهة سرعة انتشار اليوتيوب والتطبيقات الذكيّة وارتفاع تداولات استخداماتها المتعدّدة بين الخاص والعام بأرقام لا تصل إليها الكتابة التقليديّة، فإن بدأ اليوتيوب مثلاً، وكأنه مقتصر على فيديوهات تتعلّق بالأغاني ومقاطع الأفلام وغيرها من الفنون المرئيّة والسمعيّة، فإنّه سرعان ما انتشر على أنّه وسيلة تدوين وتعليم وترفيه وترفيه، وأصبح لا يكتفي بالنقل عن إنتاج قديم، بل صار مساحة لإفراز فيديوهات/يوتيوبيات على مقاسه، تتلاءم مع إمكانياته. تبدو الكتابة مشلولة وفاقدة لكثير من وظائفها غير التوثيقيّة تحت سلطة اليوتيوب وقوّة سرعته، ومن الصعوبة الرهان على بقاء ضرورته الماديّة الفعليّة على ما كانت عليه في شتّى المجالات، فتأثيرها في تراجع واضح، فإن كان الظنّ: أنّ المأزق يتعلّق بالورق أو النشر في مقابل النشر الإلكتروني، فذلك مصير قادم للورق لا محالة، وتبدو ملاحظته سهلة وليس من الغريب طرحه وأنت ترى الصحف العالميّة الورقيّة توقف نزيفها الحبري، والتعليم اللوحي/الإلكتروني عبر التطبيقات واليوتيوبات يتطوّر في وسائله وانتشاره إلى درجة يكاد ينافس الورق إلى غير رجعة في زمن قريب؛ لكنّ الحالة التي نسلّط عليها الضوء هنا، هي حالة انعزال الكتابة نفسها، تراجع تأثيرها، انعزالها عن السائد، عدم قدرتها على إتمام وظائفها بأدواتها القديمة، حيرتها في التعامل مع حالة «مابعد الثقافة»، «مابعد السياسة»، ضعفها في إيجاد مكان لها في مرحلة «مابعد الكتابة التقليديّة»....
فإن كانت أبجديّات الكتابة مرتبطة بالانحياز إلى خصوصيّةٍ ينطلق منها الكاتب -وإن كان موضوعه عموميّاً - فإنّ الخصوصيّة التي ينحاز لها أو التي تقوده هي خصوصيّة لا تخصّ المؤلّف/الكاتب وحده، بل تخصّ ثقافته، وعادة ما تأخذه باتجاهٍ ما تريده هي، وليس بالضرورة ما يريده الكاتب، لأنّ أدوات الكتابة التقليديّة تحمل شيئاً من ثقافتها بحيث تكون اللغة قد تمّ تطويعها لتناسب ثقافة ما تحت تأثيرات اجتماعيّة واستبداديّة ثقافيّة؛ هل نكتب بالطريقة التي نريدها؟
بينما أبجديات الكتابة الإنسانيّة اليوم المتمثّلة في التطبيقات الذكيّة واليوتيوب أدواتها من خارج الحدود الثقافيّة والخصوصيّة، أبجدياتها أكثر تقارباً مع الإنسان من أبجديات الكتابة القديمة التي تحمل ثقافة اللغة الخصوصيّة وتصادمها مع الثقافات الأخرى؛ بحيث إنّ تداولها بين مختلف الجماعات الإنسانيّة يؤثّر على كونها لا تنتمي إلى جماعة دون أخرى، ممّا يجعلها حامل لطبيعة ما بعد ثقافيّة قادرة أكثر من غيرها على التمدّد والانتشار لطالما لا تضع حدوداً وتصنيفات إنسانيّة، كما حال الكتابة التقليديّة في أدواتها الثقافيّة.
* *
قيمة الكتابة من قيمة الثقافة التابعة لها، فلطالما ارتبطت الكتابة بالثقافة فإنّ التضخّم الذي أصاب الثقافة قد أصاب الكتابة نفسها أيضاً، وليس صعباً الاستدلال على تضخّم المكتوب بحيث تلاشت كثيراً من عوامل التمييز، التي كانت تكتسبها الكتابة لمجرّد كونها غير مشاعيّة. أمّا وقد فرض التعليم ثمّ المشاع الإنساني التواصلي على الثقافةَ أن لا تكون من ضمن المفردات الضرورية للتواصل الإنساني، فأوجب حالة ما بعدها بطبيعة الحال، خروجاً ليس على مستوى عدائها أو محاربتها، بل تحييدها بمنأى عن التواصل، بوصف الثقافة حدوداً إنسانيّاً كما حال الحدود الجغرافيّة تقطع ولا توصل، ولأن المشاع الفضائي خارقاً للحدود الجغرافيا يصل ولا يقطع، وكلاهما بصفة عامة، وبالتالي كان ضرورياً للذي يريد الالتحاق بهذا العالم الفضائي وانعكاساته على الواقع أن يضع الحدود الثقافيّة جانباً والاقتراب أكثر من مفهوم ما بعد الثقافة تأكيداً على التعايش والتقارب والانتصار على المنازعات الدوليّة.
* *
نحن اليوم أمام التطبيقات الذكية واليوتيوب: (كتابة العصر)، وأنت لا يمكن أن ترفع عنها أهم معان للكتابة: (أنّها وسيلة تدوين وتعليم وتأريخ وترفيه..)، إضافة إلى خاصيّة (سهولة التناول والوصول) سهولة البحث في ثوان معدودات، وهو ما يجعلها مرجعاً تعزيزاً للناس في معلوماتهم ومعارفهم في حدودٍ أقلّ من التخصّص وأكثر من الثقافة. وبالتالي يمكن رؤية التطبيقات واليوتيوبات على أنّها كتابة بطريقة أو بأخرى، وهي التي تحظى اليوم بالتمييز والتخصّص (والنخبويّة) على مستوى الإنتاج وليس على مستوى الاستخدام، بحيث إن الكتابة التقليديّة أصبحت مشاعاً وتقترب أن تكون طبيعة بالتعلّم موجودة لدى الإنسان وجزءاً من قدراته المسلّم بها، بينما مفهوم التخصّص والتمييز وقدرة التأثير وسعة انتشاره إنما أصبحت من تبعات الكتابة الجديدة: التطبيقات واليوتيوبات؛ ومن الضروري الشروع أكثر بتعلّم تقنيات هذه الكتابة وأدواتها واعتبارها مادة أساس في المناهج، وهي التي فرضت تمييزها على العالم، ولم تعد الوسائل القديمة وعلى رأسها الكتابة التقليديّة قادرة على الانتشار دون الاستعانة بالكتابة الجديدة.