د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
طالب عضو في مجلس الشورى بإيقاف المكافآت الجامعية عن طلاب الدراسات النظرية؛ لأنها في رؤيته تضيع وقت الطلاب. ووجد بعض الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي تلك فرصة أخرى للتنفيس عن سخطهم المعتاد على مجلس الشورى بعد أسبوع فقط من هدوء هاشتاق مدمر استهدف عضوًا آخر، عبَّر عن رأيه بأن توفير السكن للمواطن ليس من واجبات الدولة. واستدرك العضو الموقر وسحب مقترحه قبل أن توغل سهام التوتير في صورته الإعلامية رغم أن التقليل من قيمة التخصصات النظرية ممارسة معتادة، تكاد تكون مقبولة لكثير من ممارسي النقد المجاني للتعليم الجامعي. وهي أكثر شيوعًا بين من لا يفهمون قيمة هذه التخصصات ويعتقدون أن كل دكتور لا قيمة له إلا إذا كان طبيبًا، واعتادوا قذف كل دكتور يصادفونه بالسؤال الملغم: «وش أنت دكتوره، أوادم وإلا حكي؟». ولا يلام المواطن البسيط على سؤال كهذا؛ لأن جسده بالنسبة له أهم من عقله ونفسه.
ولكن المؤسف أن يمتد هذا الفهم الخاطئ لبعض المشتغلين بالعلم أنفسهم، أو من يتلون أمرًا من أموره. فجميع التخصصات لها أبعاد نظرية، تختلف نسبتها من مجال لآخر. وجوانب الهندسة والطب النظرية أكثر من التطبيقية. ومعظم ما تعلمه مدارسنا وجامعاتنا حتى في مجالات كالكيمياء والفيزياء والأحياء، وأحيانًا في بعض مجالات الهندسة والطب، تدرَّس بشكل نظري. ولو حسبنا الوقت الذي يقضونه في المختبرات لتأكد لنا ذلك. فالمختبرات في مدارسنا العامة قليلة، ومختبرات الجامعات تعاني كثيرًا من نقص المواد والفنيين؛ لأن النظام ينظر لفئة الفنيين على أنها مكملة فقط لفئة الدكاترة. زد عليه أن المتخرج من بعض هذه المجالات قد يبقى عاطلاً لما تيسر من الزمن، أو يمارس تخصصه بعد تخرجه بشكل نظري خلف المكتب. وحتى لا نظلم بعض طلابنا، فتعليمنا في مجمله نظري.
أما فيما يتعلق بمكافآت الطلاب فقد يستفيد الشورى من استضافة بعض الطلاب من متوسطي الحال؛ ليقدموا الرؤية الواقعية المغايرة لأهمية هذه المكافآت؛ كي لا يبني أعضاء الشورى تصورهم على مقتضى حالهم فقط. ويمكن أيضًا أن يسألوا أصحاب المطاعم المحيطة بالجامعات عن الطلاب فور نزول المكافأة أول الشهر، وعن حالهم في آخره. فنحن - ولله الحمد والمنة - شعب غزير الإنجاب، قليل الإنتاج. وفي ظل تراكم الأبناء والبنات في الأسرة الواحدة تسد المكافأة عجزًا كبيرًا في ميزانية كثير من الأسر المستورة، وغيابها يدفع الكثير من الأسر لإجراءات تقشفية قاسية في زمن تحول البذخ فيه لسلوك معتاد لدى ميسوري الحال. وفئة الشباب فئة لا تعرف المستحيل، وإن لم تحصل على ما يقيم أودها بطرق شرعية، قد تضطر للحصول عليه بأي طرق تراها متاحة كما يفعل شباب الأحياء الداخلية في أمريكا وأوروبا. ولمن يجادل بأن المكافأة تشجع الطالب على البقاء في الجامعة لمدة أطول من مدة الدراسة فعليه أن يعي أن هذا - بلا شك - أفضل من بقائه خارجها في أماكن أخرى.
العلوم عمومًا لا تصنف كتطبيقية ونظرية؛ لأن النظرية والتطبيق من طبيعة العلوم كافة. وهي تصنف في فلسفة العلوم إلى علوم طبيعية، وأخرى إنسانية. العلوم الطبيعية تعني بالمادة، والإنسانية بالإنسان. وتعتمد العلوم الطبيعية التجارب والدقة بأسلوب استقرائي، وجمع المعلومات وتحليلها واستنتاج النظريات. أما الإنسانية فيغلب عليها الطابع الاستدلالي، وهو وضع النظريات وتطبيقها على الوقائع، وهي تنشد العمق لا الدقة. ولا تقل العلوم الإنسانية أهمية عن العلوم الطبيعية في الدول الأخرى، كما لا تقل الصحة النفسية والعقلية أهمية عن الصحة البدنية. فلا قيمة للجسد مع سقم العقل.
ومؤخرًا تلاشت تقريبًا المسافة بين هذين المجالين، واقتربت العلوم الإنسانية بشكل أكبر من العلوم الطبيعية، وبدأت العلوم الطبيعية تتحرك نحو العلوم الإنسانية. فدراسات الحاسوب تحاول محاكاة العقل الإنساني عبر استشفاف خطوات سلوكه، وتوقعات أسلوب تفكيره. والعلوم الإنسانية توجهت نحو توظيف التكنولوجيا في كثير من مجالاتها، كالتصميمات بالحاسوب، واستخدام قواعد المعلومات والأساليب الكمية الاستقرائية في البحث. وهناك مجالات التقت فيها الدراسات الطبيعية والعلوم الإنسانية بشكل أوضح، مثل الطب النفسي، علوم النفس العصبية، تطبيقات الحاسوب، اللغويات الحاسوبية والاقتصاد.
وتتنافس شركات التقنية والمعلومات في مجال تحليل السلوك الإنساني من أجل كسب قصب السبق في تلبية احتياجات المستهلك من التطبيقات المعلوماتية التي يعتمد عليها تسويق واستهلاك الأجهزة. أما شركات الدعاية والإعلان فهي لا تتوقف عن اختراع الأساليب التقنية للتأثير على سلوك الفرد الاستهلاكي؛ لأنها تدرك أن الفرد يستهلك لحاجات نفسية وليس لحاجات مادية فعلية. والعلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية مهمة لسبر التغيرات الاجتماعية التي تطرأ على العقل الجمعي للمجتمعات، وتتنبأ بالتحولات الاجتماعية والسياسية قبل حدوثها.
ومجالات الترفيه من أهم مجالات العلوم الإنسانية، والترفيه جانب مهم للإنسان، وتعده الدول الغربية - إضافة لذلك - جانبًا اقتصاديًّا حيويًّا. غير أن البعض يرى فقط ما هو مادي ماثل للعيان، ولا يدرك - على سبيل المثال - أن للعلوم الإنسانية منتجات يمكن تصديرها، وتدر أموالاً طائلة على الاقتصاد. فتجارة هوليود تعد بمليارات الدولارات، وسوق الدعاية والإعلان من أنشط الأسواق بالدول الأوروبية.
ومختصر القول أن كل مجالات العلم مهمة، ويجب ألا نلوم علومًا بعينها إذا كنا لا ندرك أهميتها أو لم ننجح في الاستفادة منها بالشكل الأمثل. فكثير من دول العالم الثالث تستهلك منتجات ثقافية خاصة بها بعد أن يتم تطويرها وتصنيعها في دول أخرى، وتستوردها فيما بعد بمبالغ طائلة. وعلى العموم، بإمكان أي بلد استقدام طبيب أو مهندس دونما مخاطرة تذكر، ولكن في المقابل لا يمكنه استقدام مؤرخ، أو إعلامي، أو ممارس اجتماعي، أو مخطط سياسي.. ولعل لنا عبرة في التدريب المهني، التعليم التطبيقي الأول في مجتمعنا الذي يُعِدُّ الشاب بشكل مباشر لممارسة مهنة معينة في مجتمعه، فنتساءل: أين ذهب عشرات الآلاف من خريجي هذه المعاهد؟ لِمَ العزوف لدى شبابنا عن ممارسة بعض المهن؟ الإجابة تحتاج لدراسات اقتصادية واجتماعية نفسية معمقة.