د. حسن بن فهد الهويمل
الغريب في الأمر أن هذه اللغة الحربية التحريضية في شعر [عبدالرزاق عبدالواحد] لم تُقَابَلْ بمثل ما قوبلت به لغة العلامة السلفي [ابن تيمية] النثرية، على الرغم من أن لغة الحرب التي يَمَثِّلها [ابن تيمية] كانت وليدة المواجهات التي فرضها على المسلمين [التتار] و[الصليبيون].
وهي لغة لا تتعدى [جهاد الدفع]، فَكُلٌ من [التتار]، و[الصليبيين] أوجفوا بخيلهم ورجلهم، وجاسوا خلال الديار العربية، يُذَبِّحون الأبناء، والرجال. ويسبون النساء، ويدمرون كل شيءٍ أتوا عليه.
والسجنات السبع التي تَعَرَّضَ لها [ابن تيمية] رحمه الله، لم يكن لأي واحدة منها سبب سياسي، أو حربي، وإنما سُجِن لفتاواه التي خالف بها النمطية، والجمود، وبدع المتصوفة، ومغامرات الفلاسفة، والمتكلمين، والمذهبية التقليدية المتعصبة.
والسجنة الأخيرة التي مات في غياهب سِجْنها سَبَبُها فتواه بعدم شد الرحال لزيارة القبور، بما فيها قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. مع قوله بِسِنِّيَّة زيارته، والسلام عليه، بل أكد على استحبابها، لمن أنشأ شَدَّ الرحال للمسجد النبوي.
لقد حُمِّلت الفتوى كُرْهَ [ابن تيمية] للرسول، وما هي كذلك، فـ[ابن تيمية] سلفي، لا يتم إيمانه حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، وولده، والناس أجمعين.
والحق أنها فتوى تُسْقِط بِدْعَةً صوفيةً قبورية. وفتواه تنطلق من نص تشريعي قطعي الدلالة، والثبوت. وهو حديث:- [لاتشد الرحال]. وتحميل فتواه مالا تحتمل مؤشر تعصب مقيت، عَطَّلَ الاجتهاد، وضاق بالاختلاف.
إن أجواء الحروب الهمجية المجانية، تنشئ لغة الكذب، والاستعداء، والتجريم، وهي لغة لا يجوز فصلها من سياقها. والنظر الحصيف لا يتجه إلى ذات اللغة، بل يبحث عن مشروعية الحرب.
ذلك أن [جهاد الدفع] فرض عين، بينما [جهاد الطلب] بضوابطه الشرعية، والسياسية فرض كفاية. ولغة اليوم تتفلت على الضوابط، وتستعصي على التحديد.
والرأسمالية المتسلطة، والماركسية المتغطرسة، والصَّفويةُ الحاقدة يمارس ذووها معاً، ومن خلال تبادل المواقع، كالمتصارعين [جهاد الطلب]، فيما يمارس العرب أدنى حد من [جهاد الدفع].
والمكيدة لم تكن قصراً على التناوش بين غَرْبٍ يجمع المذمتين:- الغزو، والتآمر، وشَرْقٍ أوذِيَ في عُقْرِ داره.
فكم من مكيدة خادعة جعلت بأسَ الأمةِ بينها شديداً. الحربُ اليومَ صناعةٌ ذكيةٌ، غيرُ زكيةٍ. تحالف عليها [الفرس] و[الروم] وكأن التاريخ يعيد نفسه.
وإذ تكون مثلُ هذه الحروب قدراً لا مفر منه، في ظل الظروف العربية غير السوية فإن الأجدى لمن يملك المبادرة لمنع التدهور، ترتيب الأشياء لمغالبة الأوضاع بأسلوب يقي من تفكك الجبهات الداخلية، ويحول دون إشاعة لغة العنف، وثقافة الكراهية بين أطياف المجتمعات العربية، وطوائفها، وسائر مكوناتها السكانية.
فكم من دول تُعَوِّلُ الأمة العربية على كفاءاتها البشرية، ومواردها الاقتصادية وصلابتها القومية كـ[العراق] أذهبت الحربُ الطائفية ريحها، وقضت على تطلعات أبنائها، وعادت عليها بالإحباط ، والتشرد، والفقر، وزجتها في حروب أهلية، وصراع طائفي، سيؤدي إلى تقسيمات إقليمية، أو حكم طائفي متسلط.
وويل لأمة تستقر في أرضها [لغة الحرب] وتهيمن عليها ثقافة العنف، والكراهية.
ويقيني أن الأمة العربية بما هي عليه من فوضى مدمرة، تُعَدُّ مشروع حروب أهلية، لا تزيدها الأيام إلا تجذراً، واتساعاً، وهي مؤهلة لتأصيل لغة الحرب، وثقافة الكراهية.
ومما يؤكد تجذر لغة الحرب، وثقافة الكراهية أن الحرب جزء من أشياء الحياة الدنيا، وواجب العقلاء تحاميها، متى أمكن ذلك، أو حصرها في أضيق نطاق، وتفادي آثارها، والبحث عن خيارات أهون ضرراً، وأقل تكلفة.
إن مما يخيف أن الحروب [العربية العربية]، و[العربية الصفوية]، و[العربية الرأسمالية]، و[العربية الماركسية] أصبحت مشروعاً اقتصادياً، وأصبح شطرٌ من الدخول القومية لكثير من الدول يعتمد على الحروب بكل أشكالها.
فمصانع الأسلحة الأكثرُ، والأكبرُ، ليست وقفاً على توفير الاحتياجات القطرية. إنها مشاريع اقتصادية تنافسية. تستوعب آلاف العاملين، وتدر [مليارات] العملات الصعبة، ولكي تزدهر الصناعة العسكرية، لا بد من إشعال الحروب البينية، ليتحرك تجار السلاح، وتنشط سوقهم.
وكيف تُرَحِّبُ الدول الكبرى بالسلام، وهي تصنع الطائرات الحربية، والدبابات، والراجمات، والألغام، والقنابل، وسائر الذخائر.
إنها تدير الأزمات، ولا تحلها، وتغذي الطائفيات، ولا تطفئها، وتفرق العرقيات ولا تجمعها، وتفتعل الأزمات، وتراوح بين فتح الملفات الساخنة.
فيما تأوي هي وحلفاؤها إلى جبال شاهقة من الوفاق، والسلام فيما بينها، لتعصم نفسها، وإنسانها من الغرق:- {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
إن الحروب تحقق لدول الاستكبار عدة مكتسبات:- حسيَّة، ومعنويَّة. فهي تضعف العالم الثالث، باستنزاف خيراته، والقضاء على زهرة شبابة، وتعطيل مشاريعه التنموية، وإذكاء العداوة، والبغضاء فيما بين أطيافه، وطوائفه، وأعراقه. كي ينشغل بنفسه، ويكفي المستبد مؤنة تطويعه.
وتلك العقابيل المستعصية على السيطرة، تُمَكِّن دول الاستكبار، أو ما يسمى بالعالم المتقدم من تنفيذ [أجِنْدَته] المضرة بمصالح العالم العربي، واستغلال ثروات المستضعفين ببيع السلاح، وقطع الغيار. وتأصيل الفرقة بين مكونات المجتمع الواحد، وبهذا تُحَقِّق التنافر، والضعف، وتلك بعض نتائج لغة الحرب.
ودعك من سائر البواعث، والأسباب الطبيعية كـ[لإثنية] و[الإقليمية] و[الطائفية] و[العرقية] بوصفها أسباباً أزلية قائمة في الزمان، والمكان.
ودعك -أيضاً- من الدوافع الطبيعية للحروب المتمثلة بالمصالح، والأمن، وإثبات الذات، والانتقام، والهيمنة، والثارات التاريخية.
في لجة الفتن نجد دولاً عربية كـ[الجزائر] و[عُمَان] تظن أن الاعتزال منجاة كما [ولد نوح]، وهي في الحقيقة تَرْقبُ دورها المفجع. ولو أنها مارست ما تقدر عليه، لخفَّفَتْ من فداحة الواقع والمصير.
وللخلوص من عقابيل الحروب الدموية، يطرح المكتوون بنارها خياراً ثالثاً يتمثل بـ[حرب اللاعنف]. وقد سميت حرباً، وإن لم تكن كذلك، لما يترتب عليها من أتعاب، لا تقل عن مكائد الحروب العسكرية.
إنها خيار بعيد المنال، ولكنه ملاذ المستهدفين. إذ ليس من السهل توفر الأطراف المتنازعة على إمكانيات [الحِجَاج] المتكافئ، لإقناع الطرف المناوئ، فالحجة عصب المرافعات.
والظواهر التواصلية كـ[الحجاج] يفعل ما تفعله القوى المدمرة، دون إراقة قطرة دم. وملكة [الحِجَاج] حين تمتلك الحجة الداحظة، تقلص شقة الخلاف القائم على الإقصاء، والأثرة، والنبذ للمخالف.
و[حرب اللاعنف] تتوسل بمسالك نظرية، وأخرى واقعية عملية. ومتى أتقن الأطراف المتشاكسون متطلبات المسلكين، تخلصوا من خيار الحرب العسكرية المدمرة. فالحرب قد تنهي النزاع، ولكن تبعاتها أشد مضاضة، وأنكى فضاعة منها.
- فأين نحن من إعادة البناء، ولغة التعايش. والقضاء على ثقافة العنف، ولغة الحرب؟
لقد قامت [الحرب الأفغانية] والدول العربية لا تعرف الإرهاب. والمسلمون بكافة طوائفهم، ومذاهبهم، ومِلَلِهِم، ونحلهم، لا يحاربون بعضهم. فالحرب الأفغانية حرب [أمريكية]، [روسية] استغلت فيها العواطف الدينية الإسلامية، وجُرَّتْ إليها قدمُ العالم الإسلامي.
وما أن انتهت، واستأثرت [أمريكا] بالغنائم تحولت فلولُها إلى إرهابيين، يمتلكون خطاباً دموياً تدميرياً، لم يستطع أحد احتواءه.
ومن تصور أنه قادر على لملمة ذيول الحرب، بدون ثمن يفوق ما صُرِف أثناءها، فقد جهل الحرب.
مُعْضِلةُ الحربِ في مخلفاتها:-
[ومَالحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَدُقْتُمُوا ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيْثِ المُرَجَّمِ].
ومن الخير أن يسود الخيار الثالث خيار [حرب اللاعنف] بحيث ينتقل [الفرس]، و[الغرب]، و[العرب] وسائر الأطراف المتشاكسة من ساحات الحرب، وحرب العصابات إلى الموائد المستديرة، تحت قباب الهيئات العالمية. [اللاعنف] وحده القادر على تجنيب الأمم، ويلات الحروب.
فالحروب مهما كانت دوافعها مثيرة للاشمئزاز، ومؤكدة للهمجية، والوحشية، وليست حكيمة تحت أي ظرف. فهي فتنة، والفتنة لا تصيب الظالم خاصة.
والغرب الصليبي الذي جَرَّبَ ويلات الحربين العالميتين، وخسر الحرب مع الإسلام، استعاض عنها بالتحريش بين طوائف المسلمين. وخَلْق توازنات بين القوى.
ولأنه يملك السلاح، فإنه يُعْطيه بمقدار، ويراقب الأوضاع بدقة، ومكر، بحيث لا يقدر أحد الأطراف المتصارعة على حسم الموقف لصالحه.
ومتى هَيْمنت لغة الحرب، وثقافة الكراهية، فقل على الأمة السلام.