د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
حظيت رؤية 2030 للاقتصاد السعودي بتغطية تاريخية غير مسبوقة في تاريخ المملكة الحديث. وقد واجهها الشعب بترحاب كبير يعكس توقاً شديداً للانعتاق من سلطة النفط، وتحفّز كبير لبناء اقتصاد جديد متنوع حديث. ورحبت بها أيضاً أوساط اقتصادية عالمية مهمة كالبنك الدولي وبعض المؤسسات المالية العالمية الكبرى. وقد أتت فكرة تنويع مصادر الدخل في توقيت مهم جداً تزامن مع تعرض اقتصاد المملكة، وكذلك الاقتصادات الأخرى المعتمدة على النفط، إلى ما يشبه الأزمة القلبية بهبوط أسعر النفط المفاجئ العميق. ولولا وجود مناعة لاقتصاد المملكة كوّنته في سنوات الوفرة للحق بها، لا سمح الله، ما لحق بالدول التي انهارت اقتصاداتها لحد كبير جراء هبوط أسعار مصدر دخلها الأول. ولعل من الإيجابيات القليلة لهذه الأزمة أنها نبهت المملكة لضرورة الانتباه لصحة جسدها الاقتصادية.
ولذا فقد بدأت الرؤية بمحاور أساسية لعلاج أدواء الجسد الاقتصادي السعودي بشكل أدق وأكثر فعالية. فاستحدثت أجهزة وقائية جديدة لمراقبة سير العمل الحكومي ليس من حيث الانتظام فحسب ولكن من حيث الإنجاز أيضاً. واستحدث معها جهاز لقياس نبض الاقتصاد يتمثل في قياس أداء الأجهزة الحكومية، فالإشارات الأساسية لصحة الاقتصاد السعودي ستكون مكان متابعة دقيقة. وفي حالة المرض لا سمح الله كالتقصير أو الفساد دعمت ووسعت أجهزة مكافحة التقصير والفساد لجعلها أكثر فاعلية.
ولا شك أنّ المجلس الاقتصادي الأعلى الذي استحدث مؤخراً ليقود مثل هذا التوجه، يدرك أن العمل يجب أن يكون بقدر الطموح، ويقدر أيضاً مخاطر التفاؤل المفرط، فتنويع اقتصاد كاقتصاد المملكة مهمة ليست سهلة ولكنها أيضاً ليست مستحيلة. وكما قال خير البرية: اعقلها وتوكل، وطريق المائة الميل يبدأ بخطوة.
والتخلص من الاعتماد على النفط لبلد كالمملكة مهمة ليست سهلة مطلقاً قياساً على الإمكانيات والموارد. فالصحاري الجرداء الفقيرة الموارد تغطي الجزء الأكبر من أراضي المملكة بشكل لا يسمح لها بأن تستبدل النفط بالزراعة مثلاً، ونقص اليد العاملة المحلية وارتفاع أجورها مقارنة بغيرها من الاقتصادات الناشئة يشكل عقبة في طريق تحولنا لمجتمع صناعي تقليدي. كما أنّ المملكة تعاني من تناقص متسارع في مواردها المائية وسيتزايد اعتمادها على تعذيب مياه البحار وهذا يحتاج لاستهلاك متزايد من الكهرباء والطاقة. وطقس المملكة حار بشكل أعلى بكثير من معدلات الحرارة العالمية ويعتمد في نصف السنة على التكييف المستهلك للطاقة والماء. وهذا يعني أن المملكة أكثر احتياجاً للطاقات البديلة لإنتاج الطاقة البديلة عن النفط من الدول الأخرى.
وكما بيّنت الرؤية فلدى المملكة موارد بديلة يمكن الاعتماد عليها، كالموقع الجغرافي الممتاز، المكانة الدينية التي لا تعادلها مكانة في مكان آخر، وكذلك الإمكانيات السياحية غير المطورة لأسباب اجتماعية وأخرى تطويرية وقد تضطر المملكة لتطويرها مستقبلاً مع دفع فاتورة التغيير الاجتماعي كملاذ أخير في ظروف معينة. والمملكة تدرك تقولب العالم في اقتصاد متكامل ولذا استحدثت صندوقاً استثمارياً لتنويع الدخل من الخارج وليس من الداخل فقط. فالرؤية شاملة وطموحة.
وقد أكدت الرؤية على أهمية العنصر البشري، وأهمية الاستثمار في الشباب وهذا أمر طبيعي، فالشباب هم الجهاز العضلي للاقتصاد والمكوّن الأول لقوته العاملة. وقد يتطلب تحقيق الرؤية تغييراً ربما صعباً في عقلية شباب تعود لفترة طويلة على أنواع معينة من العمل. والشباب السعودي أثبت في حالات كثيرة قدرته على العمل والإبداع بل والإتيان بمعجزات أحياناً، وهذا يتطلب الدراسة والتحليل والتشجيع. وكل ما يحتاجه الشباب السعودي هو تغييرات بسيطة في أساليب وأنماط التعليم التي ترهل بعضها مع ترهل الاقتصاد باعتماده على النفط. فيجب أن يكون للرؤية رأي حاسم فيما يتعلق بتغيير التعليم لا أن يبقى التعليم أسير رؤىً تقليدية أبقته جامداً لفترة طويلة من الزمن. فلا يمكن مستقبلاً أن تتجاوز الرؤية التعليم. ويحتاج الشباب أيضاً إلى توجيه منظم لفرص العمل التي يحتكر كثير منها ضيوف وافدون. فالاقتصاد السعودي يستنزف بشكل ممرض من قبل الأعداد الضخمة من العمالة الوافدة. والكلام هنا لا يشمل العمالة التي تقوم بالأعمال المتعبة البسيطة، ولكن كثير من وظائف القطاع الخاص وإلى حد ما الحكومي التي لا يشغلها في البلدان الأخرى إلا مواطنون.
والكلام عن العوامل البشرية لا يقتصر هنا على توظيف الشباب، بل ربما يمتد لما هو أهم من ذلك بكثير وهو ما يصطلح عليها علماء اجتماع التنمية بالعوامل السكانية) (Demographic factors، وما لم تؤخذ هذه العوامل في عين الاعتبار فقد تعيق أي خطة تنموية مهما بلغت دقة معطياتها الاقتصادية والمالية. فالرؤى الطموحة مثل 2030 السعودية ستنفذ في وسط اجتماعي سعودي وفي سياق ثقافي وحضاري سعودي، وستعتمد في تنفيذها على تكاتف وتعاون أفراد هذا المجتمع. وما لم يتحمس لها أفراد المجتمع، ويروا فيها تحدياً لهم لا بد من اجتيازه، وليس تحدياً للجهات الحكومية المنفذة فقط، فقد يكون مصير هذه الرؤية مصير بعض الخطط السابقة التي بدأت قوية ثم ضعفت واضمحلت. فالعمال البشري هو النسيج الخارجي لهذه الرؤية التي تكتسب منه مناعتها وحصانتها.
الدراسات الديمغرافية، والتخطيط الديمغرافي الذي يشمل المجتمع وتوجهاته، والقوى المتصارعة فيه، وكذلك يشمل أموراً مثل توازن المصالح مع الواجبات مهمة لاستقرار أي مجتمع عموماً وليس في فترة التحولات فقط، وهي تكتسب أهمية أكبر في زمن التحولات الكبرى. فلا بد من استباق التغيرات التي قد تطرأ في المجتمع، أو تلك التي بدت إرهاصاتها، ولا بد من استباق تحولها لصراعات مجتمعية وذلك بإحداث التوازن والتكامل بينها. وهذا قد يتطلب تغيير بعض المؤسسات الاجتماعية الجامدة وجعلها أكثر مرونة للتعامل مع اختلاف القوى المجتمعية. وللمملكة تجربة خاصة في عدم احتواء التيار المتطرف الذي ارتد على المجتمع وكلفه الكثير من المال والأرواح والأهم من ذلك من السِّلم الاجتماعي. فقبيل انتشار الإرهاب كانت المملكة على وشك أن تحول الشرطة لشرطة غير مسلحة لأنّ الأمن كان مستتباً لدرجة لا يحتاج معها الشرطي لحمل السلاح. فلا بد من دراسة وتحليل التغييرات الديمغرافية، وسد الثغرات فيها، فرؤية طموحة مثل 2030 السعودية ستحتاج لكل ساعد سعودي.