د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
قصرت وزارة العمل في قطاع الاتصالات على السعوديين، فيما سمي بسعودة قطاع الاتصالات. والسعودة تعني منح صفة «سعودي» أو الجنسية السعودية لمن هو فيما سبق غير سعودي. والحقيقة، إن كثيرًا من قطاعات اقتصادنا، وليس الاتصالات فقط، فقدت هويتها السعودية في خضم الفوضى السوقية التي يتسم بها اقتصادنا. وتظهر المؤشرات المحلية والعالمية أن اقتصادنا غير النفطي مقارنة بالاقتصادات العالمية متدني الإنتاجية، لكنه الأكثر إنتاجية، ويتصدر الاقتصادات المتقدمة في نسبة التحويلات المالية للخارج، وفي نسبة العمالة الأجنبية الوافدة للداخل. وتحول تدريجيًّا لما يشبه دار رعاية اجتماعية لكثير من الدول الآسيوية؛ فكل من أراد تحسين وضعه الاجتماعي وفد لنا.
بالطبع، ما إن صدر قرار وزارة العمل حتى هجمت كالعادة قوى الظلام والتستر على السوق باستراتيجياتها المجربة في إفراغ كل قرار لوزارة العمل من محتواه. ما اختلف هذه المرة هو إصرار وزارة العمل على متابعة تنفيذ قرارها؛ فأرسلت مندوبيها لمراقبة الأسواق، ومعاقبة المخالفين بإيقاف خدماتهم ربما مؤقتًا وليس بالشطب النهائي. والجميع يشكر الوزارة على إصرارها هذه المرة، ولو أنها تحتاج لأكثر من ذلك بكثير؛ لتكسب الثقة والمصداقية التي كسبتها زميلتها وزارة التجارة.
قطاع الاتصالات قطاع صغير من ضمن قطاعات أكبر وأهم، تسيطر عليها العمالة الوافدة بشكل شبه احتكاري واضح للعيان. وبعض قطاعات الأعمال تغيرت بالكامل في العقود الأخيرة لنمط «المشاركة التسترية»، وهي أن يبيع التاجر أو المقاول السعودي «عرفيًّا» مجال عمله بالكامل لوافد أو لمجموعة وافدة، تسيّره بالكامل، بما في ذلك الاستقدام والتوظيف. ويتولى الجانب السعودي تمثيل الوافد في كل ما هو رسمي، ويحصل على نسبة معقولة من الربح دون التدخل فيما يحدده الوافد من سعر ولا ما يمارسه من عمل. وقد وجد كثير من السعوديين في ذلك راحة كبيرة للبال، يكتفي (بجردة الحساب) ومقاسمة الربح، والخروج في وسائل الإعلام بين فينة وأخرى؛ ليتهم الشباب السعودي بعدم الجدية في العمل أو عدم القدرة عليه.
محال التجزئة في شوارعنا الرئيسة، والكثير منها أهم من الاتصالات، لا تزال قطاعات وافدة واضحة للعيان إدارة وعمالة، ولا تجد بها - لو دققت البحث - سعوديًّا واحدًا، وربما يقف خلفها سعودي حديث التجنيس، يحصر التوظيف كليًّا في أبناء جلدته على عكس صاحبنا المتستر الذي يرى أبناء جلدته غير صالحين للعمل.
الكثير من قطاعات البناء ومحال بيع مواد البناء قطاعات «وافدية» بالكامل. والحساسية من المواطن، الذي ينظر له على أنه خطر فيما لو اطلع على بعض الأمور، حولت قطاعات إدارية مهمة في كثير من مؤسساتنا إلى قطاعات وافدة بشكل واضح. أسواق الخضار لدينا التي تمت سعودتها في السابق أممتها العمالة الوافدة أكثر من ذي قبل. ومن أراد التأكد أن السعودي يبحث عن أي فرصة عمل فليذهب للسوق ويرى الكثير من السعوديين يحاولون عبثًا التعايش مع الوافدين. وليت وزارة العمل تضيف لمسؤوليتها أيضًا حملات توعية للشباب السعودي بكيفية اقتناص الفرص الوظيفية، وكيفية القدرة على البقاء في محيطات الهوامير الوافدة.
جهد وزارة العمل - في رأيي - جهد المقل، ولا يمكن إصلاح سوق العمل إلا ضمن معطيات معينة، من أهمها إقفال الباب الخلفي لمصدر كل هذه الاختلالات، وهو أسلوب منح الفيز. والتأكد أن الشركات التي تقلصت أعمالها بسبب الأزمات الاقتصادية تخلصت من مكفوليها لا أن تطلقهم في المجتمع للبحت عن عمل حتى يتحسن السوق. فالفيز في اقتصادنا تحولت من حاجة لأصل ثابت من رأسمال الشركة. والوسيلة الوحيدة لتنظيمها هي متابعتها بشكل دوري عملي وفعلي في الأسواق، وليس عبر ملفات إلكترونية داخل الوزارة. وتستطيع الوزارة أن تنشئ جهازًا كاملاً لذلك، يُدفع له رواتب مجزية من الغرامات المحصلة من المخالفين.
العمالة التي تفد بالملايين لن تضيف وظائف جديدة للاقتصاد، ولكنها ستخطط حتمًا للاستيلاء على الوظائف الموجودة من السعوديين بأي أسلوب وأي ثمن، وهي أحيانًا تدفع أثمانًا يراها السعودي غير أخلاقية. ونحن استقدمنا مع الوافدين الكثير من أساليب الغش والخداع التي تُستخدم في بلدانهم، والتي لم نعرفها من قبل. فالضرر الأخلاقي للاقتصاد، وتعوُّد أجيال جديدة عليه، يفوق أحيانًا الضرر المادي؛ فالغش، والاحتيال، والرشوة، والتدليس رفضها المجتمع بشكل كامل في السابق، والتجار والمقاولون كانوا يخشون مجرد الاتهام بها؛ فذلك مدمر لأعمالهم ومدعاة لاحتقارهم ومقاطعتهم. اليوم سادت السوق السلع المغشوشة، والمباني المضروبة، والخدمات السيئة، وطال الغش شركات ومؤسسات كانت بعيدة كليًّا عنه.