حين يولد الإنسان يدخل مدرسة الحياة الكبرى، ينهل من علومها وخبراتها وبعد بضع سنوات يدخل المدرسة النظامية التي كانت قبل مئة سنة تقريباً قبل نظام مجانية التعليم لا يدخلها إلا أبناء النخبة، والنفوذ، والمال، والوجاهة، أو من استطاع إليها سبيلاً، فيزداد الطالب وأسرته وجاهةً؛ لندرة وجودها، وقلة الاهتمام بإيجادها، وعدم توافر الإمكانيات الحكومية والأهلية في ذلك الوقت.
المدرسة ليست مكاناً للدراسة والتعليم فقط، ولا دار رعاية أو دار ضيافة للأطفال، أو مأوى لمن أراد أن يتخلص من عبء حمل أبنائه؛ لإنشغاله بعمله وغيره. هي صرح تعليمي وتربوي لغرس القيم والأخلاق النبيلة والعلوم والمهارات والأنشطة.
المدرسة ليست أرضاً ذات أسوار عالية، وصفوف مربعة مترامية، وسبورات ذكية، وجدران بالألوان فنية، بل مكانٌ لإعداد الإنسان لحياة أفضل بأخلاق أجمل، وتنمية أشمل، وتعايش مع الطبيعة والمخلوقات؛ لإعمار الأرض؛ لذا ينبغي اعتبارها بعد البيت المكان الثاني، وعدم تقليل قيمتها والسخرية منها أمام أبنائنا بمهزلة مدرسة المشاغبين وتنكيت مواقع التواصل الاجتماعي، وتركيز الاهتمام بها، وتحسين بيئتها بكل ما أوتينا من قوة بالوقت، والجهد، والمال، والتطوع والاحترام والتقدير من جميع مسؤولي وزارة التعليم والمعلمين وقادة التعليم، بل من كل أفراد المجتمع بجعلها مكاناً محبوباً مريحاً للطلاب، فهي عند كثيرين منهم مكانٌ غير محبوب، ممل، متعب، يتفننون في التزويغ والهروب منها، وهي تتفنن في تعلية أسوارها، وإحكام إغلاق أبوابها وأقفالها، وحمايتها بالحراس والكاميرات.
في القرن الماضي حارب بعض المفكرين والعلماء والسياسيين والقادة المدرسة بحجة أنها تشبه السجن، وغير جاذبة للطلاب، تدمر شخصياتهم بالضرب والإهانة وعدم احترامهم، وتكبت حرياتهم الفكرية، وديدنها أدرسوا ولا تعترضوا عليها فهي أدرى بمصلحتكم.
المدرسة تعدنا للمستقبل المشرق، تعدنا للحياة، تنظم حياتنا وأوقاتنا جميعاً، وتضبط الساعة البيولوجية للطلاب، وترتب أوقات نومهم ولعبهم، وتخفف من تضييع أوقاتهم بالألعاب الإلكترونية، وتبعدهم عن الفوضى.
المدرسة مهرجان اقتصادي، مهرجان العودة إلى المدرسة، بسببها تحيا وتنمو وتنشط كثير من الأنشطة، مثل: القرطاسية، ودروس التقوية، والملابس، ووجبات الفسحة، والمواصلات وغيرها. طالما تأفف الطلاب منها؛ لطول السنة الدراسية بثلاثة فصول، وسوء نظافتها وصيانتها، وضعف أنشطتها وغيرها، فيشتاقون إلى الإجازة، وحين صارت الإجازة أربعة أشهر مقاربةً لعدة الأرملة تضجروا منها، واشتاقوا إلى المدرسة، وهذا ديدن الإنسان لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب.
قد تكون المدرسة عند ثلة من الطلاب مملة بقضها وقضيضها، فيتسربون منها طلباً للراحة والدعة ومآرب أخرى، وأن العلم في الراس وليس في الكراس، لكنهم حين تدور بهم الحياة دوران الرحى، وتغاليهم بتكاليفها وغلائها كغلي المرجل، وتغلق عليهم الوظائف أبوابها يعودون إليها صاغرين بالانتساب أو بالدراسة الليلية أو المسائية أو البُعدية.
الحديث عنها ذو شجون، فالطالب المرفَّه والمستغني والكسول والمهمل والتنبل يتمنون ألا تفتح أبوابها، والمحروم منها خاصة في زمن الحروب والحرمان والفاقة يتمناها, مهما كان وضع التعليم في مدرسة ما، أو بلد ما، ومهما تضجرنا منها طلاباً أو أولياء أمور ومسؤولين، فهي فرض عين لا فرض كفاية أو مستحب، لا غنى عنها ولا يوجد بدلاً لها يقوم بكل أدوارها، فمن لم يصبر عليها في صغره سيندم في كبره. وعسى أن تكرهوها وهي خير لكم. إيجابياتها أكثر من سلبياتها، هي المكانة لا المكان، فلا تقتلوها في أبنائكم، ولا تلقوها في غيابة جب الإهمال عسى أن تنفعهم، ويكونوا من بعدها قوماً صالحين. أحيوها في قلوبهم بالحب والاهتمام، وأطلقوهم إلى ظلها الظليل، ظل ذي ثلاث شعب، شعب: العلم، والأخلاق، والاجتهاد، وشجعوهم على الدراسة فيها بسلام آمنين، فالحياة مدرسة، والمدرسة هي الحياة.
أنشد أحد الشعراء عنها:
في القلبِ مدرستي أنا
أحلى بداياتي هنا
ألِفي وبائي والسّنا
والكُتْبُ والخِلّانْ
وسأستعدُّ الآنْ
حُلْمٌ جديدٌ بانْ
هَيَ لاجتهادي في بلادي نبعُ ضوءٍ وأمانْ
* * *
هيَ للعُلا عُنوانْ
هيَ مُرتَقى الإنسانْ
هيَ نورُنا وسموُّنا وهيَ المكانةُ لا المكانْ
* * *
نعرِفهُم جيلاً فجيلْ
لا نبتغي ردَّ الجميلْ
يكفي نرى إسهامَهم
في رِفعةِ الأوطانْ
* * *
عونٌ لنا في التربيةْ
كم يسّرَتْ مِن أمنيةْ
لنرى بها أبناءنا
بالفخرِ والإيمانْ
* * *
هيَ للعُلا عُنوانْ
هيَ مُرتَقى الإنسانْ
هيَ نورُنا وسموُّنا وهيَ المكانةُ لا المكانْ