قرأنا في المدرسة وسمعنا من الكبار بأن العلم نور، وباب للتطور والتقدم، لكن هل سمعت يوما من الأيام بأن العلم قد يكون ظلاما وتدليسا وتشتيتا وبوابة لصناعة الجهل، ومن الممكن أن يستخدم العلم لتلقين الأفكار وتشويه المعتقدات.
نعم.. هذا هو علم التجهيل.. «اغنوتلوجي» وهو علم لنشر الجهل بطرق عملية، وهذا العلم هو ضمن علم اجتماع المعرفة، إن كلمة «اغنوتلوجي» مبنية على الكلمة اليونانية الكلاسيكية الجديدة «أغنوسيس» تعني عدم المعرفة، وهذه الكلمة الجديدة أصبحت تشير إلى دراسة الأفعال المقصودة والمتعمدة لإشاعة الحيرة والشك والخداع بهدف تحقيق مكسب أو بيع سلعة أو نشر الجدل لاستنزاف طاقة البشر.
علم التجهيل «أغنوتلوجي» وهو دراسة الجهل أو الشك المتعمد الناجم عن الثقافة، وهو نطاق بحث فلسفي جديد نسبيا يتعلق بالكيفية التي يُبنَى بها الجهل بين الناس عن طريق التشكيك، ولاسيما من خلال نشر بيانات علمية غير دقيقة أو مُضلِّلة لا تُكذِّب آراء العلماء، بل تجعلها فقط «احتمالية»، على سبيل المثال نحن نعرف منذ الخمسينيات والستينيات أن التدخين ضار جدا بالصحة.
بدأ بروكتر تضليل الناس وثبت أن التدخين لا علاقة له بالسرطان، واللعب في نتائجها حتى يتم تشتت الانتباه فيحتار الناس بين الدراسات المتناقضة، فلا يعرفون إن كان التدخين مرتبطا بالسرطان أم لا. وهذا ما يفسر إن تم استخدام نور العلم في تشويه مخرجاته ووضعها حسب مصالح شخصية أو تجارية، أوما شابه، بهدف التشتيت والتضليل، حيث هذا العلم يعتمد على دراسة عميقة لسلوك الناس وصحة نفسية، فهو متطور على الدوام وباستمرار، ليتوافق ويتناسب مع حاجات الوقت.
ويذهب روبرت بروكتر إلى القول إنَّ سياسة التجهيل قد ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى في الشركات التجارية الكبرى من خلال تسويقها لمنتجاتها، وذلك بنشر معلومات زائفة وغير صحيحة على أنَّها حقائق بهدف كسب الأرباح عبر تضليل المستهلكين، كما ذهب إلى أنَّ سياسة التجهيل تقوم على استغلال ضعف المنظومة التعليمية وتردِّيها في المكان المراد ممارستها فيه، فهو أسلوب يُستخدم لتضليل الناس وخداعهم من خلال نشر معلومات تعزِّز تشويه الحقائق باستخدام وسائل ومهارات متقدمة بحيث تبدو الحقائق مشوشة.
يقول افلاطون: «إن الجهل أصل كلّ الشرور»، إذ إنه بسبب الجهل ينجم الثراء الفاحش والفقر المدقع، وينجم الطغيان والخضوع، وبسببه قد ينجم الاستبداد أو الفوضى، والجهل هو أساس الفساد وعدو الإبداع، سواء كان ذلك الفساد فسادًا سياسيا، أو ماليا، أو فكريا أو روحيا، ويمكن أيضًا أن يرتبط ذلك بالفساد السلوكي والفساد الأيكولوجي، ولكن الجهل ليس هو عكس المعرفة، وهو معرفة تصنيع الجهل وتوزيعه لأهداف تجارية أو مالية أوسياسية، الجهل ليس انعدام المعرفة فقط، بل هو «مُنتَج» يتم صنعه وتوزيعه لأهداف معيّنة غالبًا سياسية أو تجارية ولتوزيع هذا الجهل بين أطياف المجتمع.
علم التجهيل عرف بأنه نشر لمعلومات أو حذف لمعلومات لأجل التأثير في تفكير الجمهور، والحصول على نتائج يستفيد منها أصحاب المصالح. الأمر الذي يجعلها تضاد وتُعاكس فكرا معرفيا آخر، وهو العلم الذي يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق عِلْميَّة رصينة. علم التجهيل على اعتبار أن الجهل ليس مجرد غياب للمعرفة، وإنما نتاج معارك ثقافية وتجارية وسياسية. علم التجهيل واحد من أبرز الظواهر الاجتماعية والعلمية والثقافية، فأساس التجهيل هو الكذب والخداع والتزييف والمغالطات، وهذه الصفة لازمت على مدى قرون عدة وحتى يومنا هذا.
** **
الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها - جامعة عالية، كولكاتا - الهند
merajjnu@gmail.com