في لقائه الأخير مع قناة TEN المصرية تحدث الرئيس د. رشاد العليمي بشفافية ومسؤولية لم نعهدها في أحد قبله.. قدم توصيفاً دقيقاً لكل معاناة واختلالات اليمن بدءاً من الجذور الأولى للسرطان الإمامي الممتد منذ عهد يحيى الرسي إلى اليوم.
أكثر ما لفتني في الشرح -السهل الممتنع- الذي قدمه الرئيس -وهو واحد من ألمع علماء الاجتماع العرب- لضيوفه الإعلاميين المصريين الثلاثة هو الإلمام الكلي المختصر بالقضية اليمنية والذي يمكن لكل مشاهد في العالم أن يتعرف على حقيقة القضية اليمنية في ماضيها وحاضرها، وجهود الحكومة الشرعية المسنودة من أشقائها في التحالف العربي بقيادة السعودية، ونقيض دورها الوطني الذي تقوم به ميليشيا الحوثي المسنودة من إيران.
الرئيس العليمي لفت أنظار المشاهدين للحوار إلى «سنتر المشكلة» اليمنية وهو سعى إيران إلى «هدم الدولة الوطنية»، مستشهداً بحالات مماثلة في العراق ولبنان وسوريا، حيث هُدِمَتْ الدولة الوطنية وحل محلها الخراب والدمار والطائفية والفرز المذهبي والحزبي والعشائري حتى وصل الناس إلى قتل بعضهم وفقاً لطريقة نطق الحروف، فحيثما حلت الفوضى وجدت إيران مبتغاها، في تطويق الجزيرة العربية بالسلاح المنفلت والجماعات التي لا تحتكم إلى عقل أو دين أو قانون.
وإشارة أخرى في معرض حديث الرئيس العليمي عن طبيعة الصراع في اليمن والذي يعود جذره إلى التقاء مشروع إيران التدميري مع مشروع الحوثي الإمامي في حصر حكم اليمن في البطنين، وهي فكرة سلالية استعلائية تريد تركيع 30 مليون يمني لفرد واحد يدعي أن له حقاً إلهياً في الحكم وأنه مطلق الصلاحيات، وهو أمر يتعارض مع مقاصد الدين ومقتضيات العصر، فلا يوجد اليوم من يقبل فكرة الحكم الثيوقراطي الكهنوتي، بدعاوى زائفة لا ترى في الشعب غير مصدر للعبودية والجباية، فضلاً عن أن الحكم الإمامي في اليمن هو الأكثر رعونة ووحشية في التاريخ، فهي سلالة لا تكترث بأي شيء من شأنه النهوض بالشعب، يأتي الحاكم منها ويذهب وجميع إنجازاته مقابر، حتى إن أكبر مقبرة في العالم توجد في صعدة منذ عهد جدهم المؤسس يحيى الرسي الذي خاض 45 حرباً ضد قبائل اليمن، وصولاً إلى عبدالملك الحوثي الذي توسعت في عهده المقابر وازدهرت صناعة التوابيت!.
الرئيس أشار أيضاً إلى جهود مشروع مسام المنبثق عن مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية والمركز الوطني اليمني لنزع الألغام، وقال إنه منحهما وسام الشجاعة من الدرجة الأولى لجهودهما في نزع أكثر من نصف مليون لغم، بمعنى أنهما طهرا البلاد من «الموت المؤجل»، وكأن مليشيا الحوثي لديها رصيد احتياطي من الموت، خبأته للأجيال القادمة، وأخطر ما في هذه الألغام المحرمة دولياً أنها بلا خرائط، تزرع الألغام في الجبال والطرقات والأودية والممرات الآمنة، لا يهمها كم سيموت ومن سيموت مستقبلاً.
وثمة التفاتة تاريخية لا بد منها وهي أن جميع الأسر الحاكمة في اليمن لم تترك أي آثار عمرانية تدل عليها، فلا مدارس ولا مساجد ولا مستشفيات ولا طرقات ولا سدود، حتى قصور حكم لهم لا يوجد.. بل أغضبهم وجود المستشفى الوحيد في صنعاء والذي خلّفه التواجد العثماني، فحوله الإمام يحيى حميدالدين إلى قصر حكم له وأسماه دار السعادة، وللتسمية دلالتها العميقة، فسعادته هي موت الشعب بالأمراض، كما أماتهم بالجوع حين أغلق مدافن الحبوب على أهالي «يريم» وسط اليمن، وأطلق مقولته الشهيرة: «من عاش فهو عتيق ومن مات فهو شهيد»، أي من كتبت له الحياة فقد أعتقه الله من الموت ومن مات جوعاً فهو شهيد!
لم يغفل الرئيس العليمي وهو يحدث ضيوفه الثلاثة نشأت الديهي وعبدالمنعم سعيد وأسامة السرايا أن الأخطار التي تهدد الملاحة الدولية مصدرها البر الذي يجب حسم معركته عاجلاً، خاصة مع توافر سلوكيات إجرامية تؤكد أن جماعة الحوثي لا ترغب بأي سلام مستدام، بل سلام مرحلي، تكتيكي، يمكنها من الحفاظ على المال والسلاح للانقضاض على ما تبقى من الأرض والإنسان، ليس لأنها بلا مشروع تنموي فحسب، بل لأنها أيضاً بلا حاضنة شعبية، وثقلها في الداخل هو ثقل السلاح الذي بيدها!
وعندما تحدث الرئيس العليمي عن آل البيت كان إيجابياً وقال آل بيت رسول لله نحبهم لوجه الله، دون مصالح مترتبة على هذا الحب، أما الحوثي فيعمل منهم سلماً للصعود إلى الحكم وقتل الناس، ونهب المال العام والخاص باسم الحق الإلهي المزعوم، وهذا ما جعلهم يختطفون أمين عام لجنة صياغة الدستور الجديد المنبثق عن الحوار الوطني الشامل، لأنه دستور توافقت عليه كل شرائح المجتمع، وفقاً لما نصت عليه المبادرة الخليجية برعاية السعودية، والحوثي لا يريد ذلك، فهو يعتقد أن له حقاً إلهياً في الحكم، وهذا يعطي تفسيراً منطقياً لاستمرارية المقاومة الشعبية والثورات اليمنية وحركات الإصلاح السياسي طوال مراحل التاريخ، فكلما ظهر أدعياء للحكم ظهر في موازاتهم مقاومون وثائرون.
وفي ضربة خاطفة وقاضية أسقط الرئيس العليمي ورقة التوت التي يتستر بها الحوثي، وأحرق «قميص غزة» الذي يرفعه، وقال لضيوفه: عدد الذين قتلهم الحوثي في محافظة تعز فقط يفوق ما قتلتهم إسرائيل في غزة، ومن يقتل أشقاءه في الداخل لن ينصر البعيد في الخارج!.