إن الشعر تعبير مباشر عن ذات صاحبه الساكنة التي تتوجه نحو العالم والحياة. ولذلك فهو يصدر من ذات أخرى غير الشخصية العادية كما يرى بوشكين. وذلك بتحويل المادة النفسية والفكرية إلى مادة فنية مدهشة. فكل شعر يتجلى بطريقة مختلفة نتيجة معاناة خاصة وظروف خاصة لا يمكن لها أن تستعيد ذاتها مرارًا وتكرارًا. والشاعر لا يمكن له أن يدرك تشكيل هذا الشعر. لأن الشعر ليس عملية حسابية يستطيع الشاعر معرفة كنهها ومفاتيحها وتحديد نتائجها. وبالتالي فهو عملية فنية تخييلية تتجلى في قدرة الشاعر على تطويع لغته وثقافته وإرادته في الإبداع والخلق. فالشعر يحتاج إلى ثقافة ورؤية عميقة على المستوى الفني والفكري، لأنه ليس كلامًا جميلًا مدهشًا فقط بل هو موقف واضح من الحياة عامة. إنه تفسير وتغيير معًا، ولا يمكنه أن يقوم بهذا الدور دون استناده إلى ثقافة معينة. وهو يهدف إلى تجميل الحياة والعالم من خلال تصويره الفني للأفضل وتكريس الحرية الفنية والفكرية والتعبيرية. والشعر ليس صناعة فنية وأسلوبية مدهشة بل هو موقف أيضًا وتصور خاص للحياة والكون.
وبالثورة على المفاهيم الشعرية التقليدية، والمقاييس الشعرية المعتمدة بدأ البحث عن إبداع جديد بديل في الشعر والفن والإبداع الشعري، فظهر الشعر الحر، ثم ظهرت قصيدة النثر، على أيدي رواد كبار تميزوا في الشكلين الجديدين معًا، فأخذ الشكل الأول يتطور مع كبار الشعراء، كنازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، ونزار قباني، وعبد الوهاب البياتي،.... وغيرهم. ثم تجدد مع شعراء قصيدة النثر أمثال محمد الماغوط، وتوفيق صايغ، وفاتح علاق،.... وغيرهم. وبالتالي، أصبح الشعر الحديث محل تعبير عن فن جديد وحياة جديدة، فأنتج شعرًا جديدًا أبدعته مرحلة معينة من تاريخ الثقافة العربية التي كانت في حاجة إلى التجديد وإلى كل ما هو حديث أسوة بالعديد من الأمم الأخرى. فكان الشاعر العربي في حاجة إلى إثبات ذاته ونفسه من خلال البحث عن شكل جديد في الشعر يستطيع من خلاله التعبير عن حاجات أمته ومجتمعه ونفسه. ومن هنا يعمل الناقد والكاتب المغربي إبراهيم الكراوي على معالجة قضايا متعددة لتقديم تصور نقدي وأدبي محدد المعالم والأفكار.
ينشغل الناقد والكاتب المغربي إبراهيم الكراوي في كتابه الجديد «الكينونة والوجود: مقاربة الأنساق والعلامات في الشعرية المغربية الجديدة» بدراسة نظرية تطبيقية يحاول من خلالها تشكيل مدخل لطرح السؤال والبحث عن أجوبة له، بل محاولة معالجة القضايا المرتبطة بالشعرية وفق اختبار فرضيات ابتداءً من أفق يمنحه راهن الشعريات المغربية للقارئ. بل يطمح الكراوي إلى بناء تصور يكشف بنيات الشعر المغربي الحديث وجمالياته، وعلاقته الخاصة بالواقع والوجود، وذلك باستحضار منهج يبحث ويكشف أسرارًا دون أن يلويَ عنق النص الشعري، ويفرض عليه المفاهيم والمصطلحات المسبقة التي «تسلب روح الشعرية، ودون التقيد بمواضعات منهجية صارمة ومغلقة، أو حتى تقديم مقاربة ن=تورط الشعر في مأزق المعيارية، وتبتعد به عن جوهر المعنى الإنساني الذي يحمله».
لا يهدف المؤلف إلى إعادة نسخ الثنائيات التي ترسخت عند البنيويين ومحاولة إسقاطها على نصوص محددة، رغم أن خلفياتها وصداها في أعمال دوسوسير تنم عن إمكانية أجرأتها من زاوية جديدة، وإعادة النظر في هذه الثنائيات على ضوء مستجدات الشعرية الجديدة، ونظريات العلامة، أو ما نسميه بلاغة العلامة؛ حيث يرى تزفيتان تودوروف أن «الوجود بالنسبة للكائن الإنساني أو إنتاجه للعلامة يعني توليد إنتاج عالم آخر سواء كان داخليًّا أو خارجيًّا». وفي هذا الصدد يظهر أن هاجس المؤلف هو العمل على تطوير المقاربات الشعرية للقصيدة المعاصرة، وذلك من خلال الانفتاح على مفاهيم وأدوات منهجية وتطبيقية مستلهمة من الأنثروبولوجيا الثقافية، ومن العلوم الإنسانية.
يقسم الكراوي كتابه إلى قسم نظري يتطرق فيه إلى القضايا والأسئلة التي تمثلتها الشعرية المغربية المعاصرة والراهنة، وسياقاتها المختلفة، وفرضيات المفاهيم الإجرائية المنهجية التي ستمكننا من قراءة الشعرية المغربية الراهنة، وتذليل الصعوبات، وتجاوز معضلات التلقي كما نشهدها اليوم؛ في حين يتطرق في القسم التطبيقي إلى تتبع ومقاربة تجارب مختلفة، حيث استنتج المؤلف أنها تشكل في حد ذاتها شعريات وجماليات فتحت آفاقًا جديدة، وتمثلت أسئلة العصر، واستجابت للأفق النظري الذي بسطه من زاوية محاولة مقاربة بلاغة العلامة، وانزياحاتها التخييلية بكل صورها وآفاقها المنفتحة على مفاهيم لسانية وأنثروبولوجية من أجل فتح أفق للنقاش بخصوص الشعرية الراهنة، وأزمة التلقي من جهة، والكشف عن العثرات والمشاكل والعوائق المنهجية التي تعترض دراسة الراهن الشعري وتجاوزها في الجزء الثاني من هذا العمل الذي سينفتح على تجارب مختلفة أخرى محاولًا سبر أغوار هذا الأفق المترامي للشعرية المغربية.
يرى الكراوي أن التخييل الإنثروبولوجي هو بنيات متضمنة في لاوعي النص الشعري ذاته، وهذا التنوع في المفاهيم الاصطلاحية، لن يكون حاجزًا أو عائقًا يصدر عن عدم وعي نقدي بالتوظيف، يؤدي إلى عدم انسجام في الخطاب النقدي نفسه، أو يكون انتقائيًّا، لأنه «يكتسب قوته انطلاقًا من دينامية العلامات. وما أوحى لنا بأن نسلك هذا المسلك البعيد، هو أفق القصيدة الجديدة نفسه، والذي يظل فضاء قابلًا للكشف والاكتشاف المتجدد. وجدير بالذكر أننا لم ننطلق من اعتبار النص مدونة أنثروبولوجية، أو بنية معزولة عن أفق التلقي، بل اعتمدنا على أدوات ومفاهيم مشتركة بين المتعارضين الأدب (الشعر) والعلم (والأنثروبولوجي وحقل العلوم الإنسانية)، محاولين تطبيقها على النص الشعري».
يستنتج المؤلف في خاتمة الكتاب أن الشعرية المغربية هي شعريات مختلفة على صعيد الأسلوب، والرؤية للعالم. فهي شعريات لم تنفصل عن السياق الثقافي والسياسي والتاريخي الذي ظهرت فيه الكتابة الجديدة بشكل عام، والشعرية الجديدة بشكل خاص. فهذه الأخيرة جزء لا يتجزأ من هذا المنجز العربي الذي عرف مخاضًا وثورات على مستوى تحديث القصيدة وتطورها؛ حيث شكلت هذه الشعرية استمرارًا للثورة الشعرية الثانية التي عرفها العالم العربي وتطويرًا لها، بل إضافة نوعية لهذه التجارب. بل يؤكد المؤلف على أن القسم التطبيقي في الكتاب يكشف عن مقاربة جانب ومساحة من هذا الإنتاج الذي يحاول نحت أساليب جمالية مختلفة عن جيل الرواد، ولم تكن أسئلة الشاعر المغربي في إطار هذه التجارب لتنفصل عن أسئلة الواقع، والفكر ومختلف تمثلات العصر وقضاياه.
يحاول هذا الكتاب التعريف بالمنتج الشعري المغربي والكشف عن جمالياته، ولم يكن ذلك ليتم تحقيقه لولا اعتماد منهج منفتح ينفخ روحًا جديدة في المفاهيم التي ظلت تطبق على النصوص بصورة إسقاطية لا تراعي تطور النصوص والآفاق الجديدة التي فتحها تطور القصيدة المغربية. بل عمِل الكراوي على تدقيق بعض المصطلحات والمفاهيم من جهة باعتبار أن المصطلح هو مفتاح العلوم والأفق الذي يضمن انسجام الخطاب النقدي، وبعث ملاءمة البعض الآخر مع الأفق الجديد الذي تفتحه هذه الشعريات الجديدة.
** **
عزيز العرباوي - كاتب وناقد مغربي