وجود المرء على هذه الكرة الأرضية، بما له من صفات ترتبت عليها حقوقه وواجباته، يفرض تلقائياً قيام الحياة فيها، على أساس مبين من الإيجابيَّة والأخلاقية، بشكل أو بآخر فإن تدرج الحياة مع الوجود البشري في الأرض، وما في جِبِلَّة المرء من طاقات وتطلعات، وأشواق وأذواق، وتحديات واجهته بها الطبيعة منذ بداية الأمر، ولا تزال، من جهة ثانية، وفطرة الكرامة، التي تتطلب الحركة الإراديَّة، في الصمود وإثبات الوجود والإبداع، وذلك من أجل، تحقيق البقاء والارتقاء، وذلك في إرساء دعائم البنيان الحضاريِّ في هذه الأرض. باختلاف الزمان والمكان والإنسان، عبر المسيرة البشريَّة، الطويلة الممتدة والمستمرة، يتوالى نشوء التصورات المتعدِّدة للوجود في ذاته، وللحياة وغايتها، وللإنسان، ورسالته، ومصيره. وتبعاً لذلك يتباين «السلم الحضاري» وتختلف «الهوية العقائدية» في حضارة ما، عنها في حضارة أخرى.
وبعد هذه المقدّمة القصيرة سوف أتحدث في صلب الموضوع وبطريقة مختصرة وواضحة - فقد انطلق الإنسان من الأصل الثابت «وجود الخالق» وبالتالي من التصور «الرباني» لهذه الحياة فإنه يعالج كل شيء بيقين راسخ وصدق ممتد بأن «المعرفة الإنسانية» محدودة دائماً فهي قابلة لأن تتفتح فيها مرة بعد مرة آفاق جديدة وتظهر لها جوانب من الحقيقة لم تكن ظاهرة من قبل قد يحدث عنها تغيير كلي أو جزئي في المقررات العلمية فالإنسان يسعى دائماً أن يتقرب أكثر فأكثر في اتجاه بحثه العلمي وفهمه الإنساني من اليقين الراسخ والصدق الممتد وهكذا تكون الحضارة إيجابية متنامية قلبية لكل جوانب النَّفس الإنسانية مسعدة البشرية عامة، لأن موازين الخير والشر فيها وقواعد الأخلاق، وضوابط الحياة الفردية والاجتماعيًّة مستقرة - على مرونتها - لأنها تصدر عن حقيقة واحدة ثابتة كبرى هي الحقيقة الإلهية ووحدة الحقيقة الإلهية فهي وحدة حقيقية تحقق كرامة الإنسان وأكبر عامل في سعادته.
إن الحقيقة الواحدة في التصور الرباني كانت تتأكد وتتجدد عصراً بعد عصر ومرة بعد أخرى حتى جاء الإسلام فوطدها بشكلها الراسخ العتيد. أما الحياة التي تقوم على عقائدية مستمدة من «الصيرورة البشرية» والحضارة التي تسودها - باختلاف أجنحتها - فإن الحقيقة فيها ليست ثابتة فإن القواعد الأخلاقية والضوابط الفردية والاجتماعيَّة والحوافز المحركة للسلوك، تكون قلقة متبدلة، بل في كثير من الأحيان متناقضة متهاترة متضاربة، حيث إن إنسان هذه الحضارة بشكل عام، يعيش في نصب، وتوتر أعصاب وشقاء!! إنها حضارة غير ناضجة، ولا متلائمة مع الإنسان، إنها تسخر منه، وتعلي له البنيان لتهدم فوق رأسه! وتكشف عقله وعلمه وبحثه وأسرار الطبيعة وقواها، لا لتسعده بها واقعياً، وإن ادَّعت ذلك، بل تحاول لتدمره تدميراً!! حتى تجعله وحشاً، يعيش شقياً حائراً متمرداً قلقاً.
والله الموفَّقُ والمعين.