في احتفال نظمته اللجنة النسائية بأدبي جدة مساء يوم الأربعاء الماضي بمناسبة اليوم العالمي لحماية ضحايا العنف الأسري، حدثتنا الإعلامية الناشطة سمر فطاني عن وسائل حماية الطفل في ظل القوانين الدولية، وكان حديثها مثيراً للوعي وللشجون على حد سواء، فالمملكة قد صادقت على اتفاقيات تلتزم فيها بالتصدي لظاهرة العنف ضد الأطفال على المستويين العالمي والاسلامي، لكن الالتزام لم يخرج من صيغته الحبرية ليتفعل خارج نطاق الورق، واستمر تعذيب ملائكة الجنان دون رادع قوي أو تعديل للأطر القانونية التي توفر لهم الحماية المنشودة.
تحدثت الاستاذة سمر فطاني فتأججت مشاعر الحضور الذين تعجبوا من أمة نبي الرحمة التي ما زالت تعتقد أن مقولته العظيمة (أنت ومالك لأبيك) تخول هذا الأب لأن يزهق روحك دون تدخل من أحد، أن يقتلك دون أن ينال عقاباً، ويغيب عن أذهان هؤلاء أن الاسلام قد حرّم الوأد، وأن الفتاوى الدينية ما زالت تحرم إسقاط الأجنة، بل تتحرج حتى من تنظيم النسل. ما الذي يضعف هذا الحرص على الروح التي هي من أمر الله فيترك الحبل على غاربه حين يتجبر أحد الوالدين ويعرض حياة أبنائه للموت وقد خرجوا إلى الدنيا، وبعد أن شبوا عن طوق الوأد ؟ في مرحلة التخلق في الأرحام، نستغفر الله من ذنب إزهاق الروح، ثم تقشعر أبداننا وتستعيذ بالله من دس المواليد في التراب وقتل النفس التي حرم الله، فما الذي يحدث لنا في المرحلة الثالثة التي يصبح فيها للمخلوق شكل وإحساس وإرادة؟ ما الذي يجعلنا نراقب بكل برود جميع مراحل التعذيب التي يمر بها الطفل في سن متقدمة من حياته حتى يسلم الروح لبارئها ولا ينبض لنا عرق؟
قد تتدخل السلطات في حالات متقدمة بعد أن تضج الصحف بتفاصيل تعذيب وحشية، حينها يتم إنقاذ بعض الأطفال كحالات فردية بعد أن أصبحت مآسيهم قضايا رأي عام، لكن نظام حمايتهم قبل أن تتفاقم المشاكل ما زال معطلاً. كان في الأمسية شهوداً أبلغونا عن العجز الذي تشعر به الطبيبات في المستشفيات حين وصول حالات العنف الأسري بشكل عام، فهم يقومون بالانقاذ والتبليغ، لكن لا حق لهم في المتابعة ولا في تقديم خدمات أو حماية. أبلغونا عن العجز الذي يشعر به الأساتذة والأستاذات في المدارس حين يلحظون آثار التعذيب الجسدية والنفسية، فيقفون مجمدين مقيدين لا يعرفون كيف يتصرفون لحماية طفل أو فتاة أو صبي أصابهم أذى شديد من ذويهم. أبلغونا حتى عن عجز مراكز الحماية في الجامعات والمستشفيات والشرطة التي ليس من حقها حجز المجني عليهم إلا لوقت محدود يقومون بعدها بتسليم الضحية للجاني عليها كونه ولياً لأمرها.
ثم إننا تحدثنا عن الحلول التي يمكن أن تساعد في حماية الضعاف في الأسرة من جميع أنواع التحرش، وتشكّى الدكتور سعود الكاتب، وهو ناشط اجتماعي متبني قضية التصدي لظاهرة العنف ضد الأطفال في المجتمع السعودي، من تراخي وزارة الشئون الاجتماعية عن أداء دورها بفاعلية أكبر، وحكى قصته المشهورة مع الخط الساخن للوزارة الذي يعلّمنا التخاطب مع الرنين دون استجابة بشرية، ثم قصته الثانية مع الخط ذاته (1919) الذي اعترته البرودة حين قام بالتبليغ عن حالة عنف أسري، وانتظر عشرة أيام كاملة تحرك بعدها موظف في الوزارة ليتأكد من المعلومة، وحينها أدعى الدكتور سعود أن الطفل قد مات تعذيباً، وهي مدة كافية لطلوع الروح قبل تحرك الوزارة داخل دائرة بيروقراطية قاتلة بالفعل!!
وتطرقنا إلى ضرورة نشر الوعي بشكل مؤثر في الناس، وذلك بالتحدث إليهم في محاضرات توعوية تحمسهم وتحركهم لكف أيديهم عن الضعفاء داخل الأسر، ثم لإشعال روح المسئولية الاجتماعية للتبليغ عن حالات العنف الأسري التي يشهدها الجيران والأهل حتى لو تقاعست الضحية عن التبليغ خوفاً أو جهلاً. تذكرت كيف أن جيراني في أمريكا قد لاحظوا بكاء مستمر لطفلة كانت في زيارتنا مع أبويها، فبلغوا خط الحماية الساخن بالفعل، وفي اليوم الثاني ظهرت الشرطة على بابنا تسآلنا وتطالب بالكشف على الطفلة للتأكد من أنها لا تتعرض للأذى. ثم تذكرت تلك الحالة التي قرأنا عنها في صحفنا المحلية من مدة بسيطة عن جيران بلغوا السلطات عن احتجاز أب لولده في غرفة لا يرى فيها النور، بعد مضي خمسة أعوام..!!
حسناً، الخلاصة إذاً أننا 1) نريد نشر الوعي بين الناس لمعنى التحرش وأنواعه ومخاطره، و2) نريد بث الحماس وروح التعاون بين الأفراد لملاحظة حالات وقوع هذا التحرش، وأن 3) نكون متأهبين متنبهين لأحوال جيراننا والناس من حولنا، وأن 4) نقوم بالتبليغ حالما نشك في أوضاع مريبة، و5) نريد خطوطاً ساخنة تستجيب لنا في لمح البصر، و6) تفاعلا سريعا مع البلاغات دون تباطئ وعدم مبالاة، و7) تحركا مباغتا لا يعطله روتين ولا بيروقراطية ولا أذونات، و8) تدخلا فوريا لإنقاذ من وقع في براثن التحرش، و9) مبادرة فعالة لتحريك الشرطة و10) وضغط السلك القضائي لإصدار العقوبات الرادعة من آلاف الجلدات للمتلبسين بالجرم المشهود.
توصلنا إلى الحلول، لكن المرارة بقت لأننا أدركنا صعوبة المشوار وطول الطريق، متى يتم كل ذلك؟ وكم طفل وفتاة وامرأة سيموتون قبل الوصول إلى النتائج المرجوة؟ وفجأة قفز أمامي الحل الناجع، فجأة تحددت ملامح المنقذ الوحيد من هذا الهم وأضراره الجسيمة. بالله عليكم أعيدوا قراءة قائمة المطالب ثم فكروا جيداً: على من تنطبق كل هذه المواصفات؟ بالطبع، فقط هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الجهة الوحيدة المؤهلة للقضاء على جميع مظاهر العنف الأسري والتحرش.
كيف؟ قبل كل شئ: التحرش مبدأه واحد سواء تم في الأسواق أم في المنازل والمدارس، وأخطار التحرش واحدة سواء قام بها الشباب ضد الشابات أم الآباء ضد الأبناء. التحرش إذاً من اختصاص الهيئة وقد خطت في صده خطوات جبارة ولديها الخبرة المناسبة للتعامل مع هذه الظاهرة الخطيرة.
والهيئة لها قدرة على الإقناع لا مثيل لها، فلها من المشجعين والتابعين والمؤمنين برسالتها العظيمة التي تصب في صالح المجتمع أعداد لا حصر لها، وهي إن قالت فالآذان مصغية وإن نصحت فالنصائح قيد التنفيذ، لذا حين تتولى نشر الوعي فدروسها ستتغلغل في عقول وصدور الناس بشكل لا يقبل النقاش. وللهيئة متطوعين يتعاونون معها وتبقى أعينهم مفتوحة لكل ما تشوبه شائبة فيسارعون بالتبليغ، وبسرعة لا مثيل لها يجيب الهاتف الساخن، وبمجرد إنهاء المكالمة، تتحرك السيارات وبداخلها أعضاء هم دائماً على استعداد ودائماً يتحركون بحماس رائع دون تباطؤ ولا تراخي، وفي ثواني يتواجدون في موقع الحدث، وحين يصلون فهم سيتصرفون بصلاحيات غير محدودة ويضربون بيد من حديد على أيدي الجناة لردعهم ثم سحبهم إلى مراكز الشرطة التي تستقبل الحالات وتتخذ الإجراءات اللازمة في وقت خرافي، وقد يتحول الجناة إلى القضاء فتعرض قضايا الهيئة على الفور وتصدر فيها أقسى العقوبات التي ستعمل دون شك للردع والمنع والتصدي بنجاح باهر.
دعونا من (1919) ولنتصل بأرقام الهيئة ونترك الأمر لهم ليتصرفوا بحكمتهم المكتسبة في محاربة التحرش، وبعلاقاتهم الحميمة مع الناس، وبقدرتهم على تخطي كل خطوط البيروقراطية، وبصلاحياتهم التي تلامس كل مرافق الدولة، وبتمكنهم من إيقاف الضرر في زمن قياسي وتبديل حال هؤلاء المعذبين على أيدي ذويهم. أنا أرى أن تتولى الهيئة هذا الأمر برمته وأنا على ثقة تامة أن المشكلة ستتلاشى دون جهد أو تشكي. الهيئة تتفرد كجهة حكومية بنجاحها في إخراج أفراد مندفعين للعمل بشكل عجيب لا نصادفه في أي جهة حكومية أو خاصة، هذا الحماس والتفاني لا مثيل لهما حقيقة. لنقارن كيف نتعرض للمماطلة والتعطيل والمراجعات المطولة التي ترهق أعصابنا دون أن نرى نتيجة شافية في الجهات الأخرى، لنقارن كيف يهملنا موظفي المرافق الحيوية من ماء وكهرباء على الهواتف أو في أروقة مكاتبهم، لنقارن كيف تتحرك معاملاتنا ببطء شديد وقلة فاعلية في البلديات ومكاتب العمل والجوازات، لنقارن كيف نقف وكأننا نشحذ الخدمات من موظفي الخطوط، لنقارن كيف تتعطل مصالحنا ونحن ندفع حر أموالنا لإنجازها، ثم لنعترف بجاهزية رجال الهيئة وحرصهم الشديد على اتقان عملهم حتى لو تخطوا حدود الواجب تفانياً، بل حتى لو واجهوا معارضة ورفض ومقاومة وهم يقدمون خدماتهم لجمهور لا يدفع مقابلها قرشاَ واحداً.
من أين يأتي رجال الهيئة بكل هذا الإقبال على العمل والتأهب والرغبة المتأججة في إتقان الآداء المثيرة للإعجاب والتعجب، وكيف عجزت باقي الجهات عن دفع موظفيها والارتقاء بآدائهم لهذا المستوى الرفيع من التفاني؟ قبل فترة وجيزة كان هناك تحرك لتدريب موظفي الهيئة في دورات موجهة للتعامل مع شرائح المجتمع، وأنا والله أخشى أن تفسد هذه الدورات حماسهم وتوقدهم، وأقترح هنا أن تستفيد باقي الجهات الحكومية من تجربة الهيئة في إعداد الموظفين وإذكاء روح الحماس وترسيخ أخلاقيات العمل فيهم. في اعتقادي أن نموذج العمل الوظيفي في الهيئة لا يماثله إلا تجربة أرامكو وهي تجربة أجنبية، أما محلياً فالهيئة تبقى متفردة ويجب أن يستفيد منها باقي القطاعات، أما حل مشكلة التحرش الأسواقي، وبالتالي التحرش الأسري فتبقى بيدها وحدها، فلنعطي العيش لخبازه ونطمئن على انقاذ ضحايا التحرش من مصائرهم القاسية.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة
lamiabaeshen@gmail.com