كتبَ السيد: علي حرب في كتابه (الممنوع والممتنع) بأنه وعَبْرَ أسلوبه: يطمعُ إلى تشكيل خطابٍ يجمعُ بين وضوح الرؤية، وجمال العبارة؛ ويجمع أيضاً بين دقة المفهوم وقوة الأسلوب؛ وبين منطق البحث ومتعة النص(1).
وهو بهذا التعبير المختصر، استطاعَ حقيقةً، أنْ يلخِّصَ مفهوم الأسلوب، وأن يضع له حداً جامعاً مانعاً، ونحن ينبغي لنا أن نشيع هذا التعريف في الأوساط الثقافية، وأن نروج له، وأنا قد توقفت قليلاً عند كل فقرة من فقرات هذا التعريف، وأحب من القارئ أن يشاركني في هذه الجولة السريعة.
تعريف الأسلوب هو: (جمعٌ بين وضوح الرؤية، وجمال العبارة؛ وبين دقة المفهوم وقوة الأسلوب؛ وبين منطق البحث ومتعة النص)
أولاً - وضوح الرؤية
إن الكاتب أو المؤلف عندما يريد أن يكتب عن فكرةٍ ما عليه أنْ يفهمَها أولاً بشكلٍ جيدٍ، وعليه أيضاً أن يعرف مالها وما عليها، فإن ذلك مهمٌ للغاية؛ لابدَّ أن يدع الأفكار تتخمر في عقله ردحاً من الزمن، ولابد أن يتركها في دماغه حتى تستوي وتنضج.
1- علينا أن ندرك تماماً بأن وضوح الرؤية لا يمكن أن يحدث فجأةً، ولا أن يتحقق صدفةً، إنما هي ثمرةٌ تُنالُ بعد طول بحثٍ، وبعد جهدٍ جهيد من التفكير المتواصل.
2- إن الفكرة تظهر بدايةً في جوٍّ تَعْلُوهُ الأتربة تارةً، وتارةً تظهر في جو ممتلئ بالضباب، إلا إنها تبدأ في الوضوح شيئاً فشيئاً، كلما واصلنا البحث والتأمل.
3- يُذكر بأن الخليل بن أحمد الفراهيدي، عندما أتته فكرة وضع علم العروض، ظل يفكر بطريقة هي أقرب إلى الجنون والهلوسة، وكان يستغرق في التفكير لساعات طويلة، حتى توصل إلى ما توصل إليه.
4- علينا أن نعلم بأن الغموض في الأسلوب ناتجٌ إما عن عدم وضوح في الرؤية، وإما بسبب ضعفِ في لغةِ الكاتب وأسلوبِه.
5- هذا الغموض كثيراً ما يحصل في الكتب المترجمة، حيث يعمد بعض المترجمين إلى ترجمة كتب ومؤلفات لم يفهموها أصلاً، فضلاً عن أن يقوموا بترجمتها.
6- إنَّ وضوحَ الرؤية، تُبعدكَ عن التَّخمين، وتُزيحكَ عن التَّأويل الباطل، وتجعلك تسعى إلى أنْ تتفادى الحشوَ والاستطرادَ الذي لا طائلَ منه؛ وهي أيضاً تجبرك على انتقاء الألفاظ والجمل، وهذا مما أشار إليه النّفري حين قال: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.
ثانياً - جمالُ العبِارة
1- المقصود من جمال العبارة: هو الشكل اللفظي؛ أو هو ما يسمى في علم البلاغة بعلم البديع، وعلم البديع اليوم لم يعد طباقاً وجناساً فحسب، بل هو موسيقى وإيقاع، قبل أن يكون ألفاظاً وكلمات.
2- إن الكاتب دائماً مطالب بأن يجمع بين الشكل اللفظي، الذي هو متمثلٌ في جمال العبارة، وبين الشكل المعنوي، الذي هو متمثلٌ في وضوح الرؤية؛ فثمةَ مؤلفين لا يجمعون بين هذين المطلبين، فينشغلون عن هذا بذاك.
3- لجمال العبارة فوائد وقلائد؛ منها: أنها تجعلُ القارئَ يستشعر مقدارَ الجهد المبذولِ في الكتاب، كما وإنها تساعد في دفع المللِ عن قلوبِ القراء وأذهانهم، وهي سببٌ في رفع مكانة الرؤى والأفكار.
4- لا بد من تزيين حروف الكتاب بالعبارات الجميلة، وبالجمل الساحرة، إذ لا يحَْسُنُ أبداً بأن تكون أفكار الكتاب ذات مكانةٍ وقدرٍ، في حين تصبح جمله وعباراته محطَّ استهجان.
ثالثاً - دقة المفهوم
يعرَّفُ المفهومُ بأنه: الصورة الذهنية، سواءً وضع بإزائها اللفظ أو لم يوضع (2)؛ وهو يختلف عن المعنى.
وهذا التعريفُ تعريفٌ فلسفيٌّ، ومعناهُ: أنَّ كلّ شيء ٍيتم تصوُّره ذهنياً بشكلٍ أو بآخر، سواءً أفصح عنه صاحبه أو لم يفصح؛ هو في حقيقة الأمر يعد مفهوماً.
1- إن على المؤلف إذا هو أراد أن يصبح أسلوبه محط إعجاب الآخرين، عليه أن يتحلى بهذه الميزة وهي أن يكون لديه تصور ذهني عام لما يريد الكتابة عنه وأن يقوم بأداء المفهوم بشكل دقيق.
2- إن دقة المفهوم تتحقق في الأداء الكتابي، فإن من السيئ جداً أن تكتب مفهومك العميق بطريقة غير دقيقة وغير حذرة.
3- بعض المؤلفين من المفكرين يكتبون أفكاراً عظيمة بطريقة غير دقيقة، وهم يبررون ذلك: بأن غموضَ الأسلوبِ دليلٌ على عمق الفكرة، لكنَّ هذه الدعوى غير صحيحة، إذ إنَّ السبب الحقيقي في غموض كتاباتهم هو أنهم لا يمتلكون أسلوباً جيداً، أو ربما لأنهم لا يعيرون لجمال الأسلوب أي اهتمام.
رابعاً - قوة الأسلوب
1- تعد الأساليب القوية عاملاً مهماً في التأثير على الآخرين، وهي أيضاً تعتبر أداةً خطرةً جداً على الشعوب، فمن خلالها يمكن للمثقف أن يغير قناعات الكثيرين، بشرط أن يستخدم الأداة الحقيقية: الإيحاء.
2- إنني أعتقد - وربما أكون مخطئاً - بأن أعظم سرٍّ في قوة الأسلوب هو استخدام هذا الذي يسمى بالإيحاء؛ فهو قوة ذاتية لا يتقنه إلا المؤمنون الأقوياء.
3- إن الجماهير تتأثر دائماً بالقوة، كما يؤكد عالم الاجتماع غوستاف لوبون، ولا تتأثر بالطِيْبَة، حيث إنها – أي الطيبة – تعدُّ من علامات الضعف.
4- إن غوستاف لوبون، كما نقل عنه سيغموند فرويد، أكد على ضرورة تجنب العنف، موضحاً أن العنف ليس من القوة في شيء، وعليه، فإن بعض الكتاب والمؤلفين يلجؤون إلى العنف الكتابي ظناً منهم بأن ذلك من عناصر القوة، وهو في حقيقة الأمر يعد أحد علامات الضعف، ومن إمارات فقدان الثقة بالنفس.
5- إن قوة الأسلوب لا يمكن أن تتحقق إلا بالإيمان العميق للفكرة التي يريد المرء الكتابة عنها، أما إذا كان إيمان المرء بالفكرة ضعيفاً فلا شك بأن الأسلوب لن يكون قوياً ولا مؤثراً.
6- إن علينا إذاً أن لا نستعجلَ طرحَ آراءِنا قبل أن نكون مؤمنين بها إيماناً عميقاً، وذلك حتى لا نخسر أنفسنا وحتى لا نخسر أيضاً ثقة الآخرين بنا.
خامساً - منطق البحث ومتعة النص
منطق البحث يقصد به التحليل المنطقي، وهذا لا يحصل إلا لأؤلئك الذين قرؤوا في الفلسفة واطلعوا على كنوزها، لكن المشكلة أن الذين يتمتعون بهذه الميزة من الكتاب لا يستطيعون في الغالب أن يكتبوا بطريقة ممتعة وسهلة، والسبب هو قلة قراءاتهم للإبداعات الأدبية الجميلة، ولذلك نجد بأن الفيلسوف عبدالرحمن بدوي يؤكد أن أسلوبه الجميل كان سببه أنه قرأ المنفلوطي وأدمن أسلوبه.
وعلى كلٍ فإن هذا التعريف الذي حاولنا فهمه هو أفضل التعريفات التي اطلعت عليها، برغم الكم الكبير من التعريفات التي ذكرها الألماني (فيلي سانديرس) عبر كتابه (نحو نظرية أسلوبية لسانية).
(1) الممنوع والممتنع ص 185
(2) المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، لعبد المنعم الحفني.
بريدة