كنت أقرأ عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بكلية الآداب بنمسيك بالدار البيضاء، وقد وصلتني بعض أعداد مجلتها الراقية (قاف - صاد) التي صدر منها لحد الآن سبعة أعداد، كما وصلتني بعض المجاميع القصصية التي صدرت من منشورات هذه المجموعة، وقد تفضلوا عند لقائي بهم بإهدائي عدداً من هذه المنشورات وبين يدي الآن مجموعة من القصص القصيرة جداً لعبد الحميد الغرباوي عنوانها (اكواريوم) وعندما أفرغ من متعتي بقراءتها سأقدمها لقراء هذه الجريدة.
وعندما تذكر مجموعة البحث هذه تذكر معها تجربة موازية أخرى في الكلية نفسها هي تجربة مختبر السرديات المعني بالرواية ويشرف عليه عدد من الجامعيين أذكر منهم الباحث والروائي بو شعيب حليفي وزملاء آخرين له.
كما ان مختبرات البحث هذه في شتى الأجناس الأدبية مسألة معروفة في المغرب أذكر هنا مختبر السرديات في كلية الآداب - ظهر المهراز بفاس وقد استضافني المسؤولون عنه قبل سنوات في حديث أمام طلبة قسم الدراسات العليا في الكلية.
أما مجموعة البحث في القصة القصيرة هذه التي يديرها عدد من الجامعيين قصاصون ونقاد أمثال القاص المعروف أحمد بوزفور الذي لم ينشر إلا المجاميع القصصية، ولم يتحول إلى الرواية كما هو حال عدد من كتاب القصة المغاربة أو العرب بشكل عام وقد قدم أعمالاً مهمة على امتداد عمره الأدبي (هو من جيل الستينيات الذي ضم الثلاثة براءة وشكري وفرزاف ومبارك ربيع وأحمد المديني وعبدالجبار السحيمي وغيرهم).
أما مجلة (قاف - صاد) فمديرها المسؤول الباحث الجامعي مصطفى جباري وتتكون هيئة تحريرها من الأدباء أحمد بوزفور، عبدالمجيد جحفة، قاسم مرغاطا، حسن بوتكي.
وتعنى هذه المجلة بنشر كل ما يتعلق بالقصة القصيرة نقداً تعريفاً وترجمة وتأريخاً اضافة إلى عنايتها بنشر النصوص القصصية التي تشكل تجارب جديدة في الأدب العالمي.
وقد تأسست مجموعة البحث هذه في الثالث من اكتوبر سنة 1999م ولكنها مارست نشاطها منذ الخامس من فبراير 1999م.
وقد كان لي لقاء مع أسرة هذه المجموعة أساتذة وطلبة بدعوة من الصديقين مصطفى جباري وأحمد بوزفور اللذين توليا تقديمي إلى من حضر من المجموعة في تلك الصبيحة الكازابلانكية التي تصدرت نهاراً صاحياً مشمساً بعد أمطار غزيرة جادت بها السماء على أهلنا في المغرب.
ان هذا الحماس الجاد للقصة القصيرة يستحق التقدير لأنهم يعملون على أن تظل للقصة القصيرة مكانتها رغم انحسارها في معظم البلدان العربية وأصبح لقب روائي - كما قلت لهم في اللقاء - أكثر إغراء.
ولذا لم أستغرب دعابة صديقنا الروائي والباحث أحمد المديني التي ذكرها الأخ بوزفور بأن مجموعة البحث هذه جاءت بميليشيا للقصة القصيرة.
إذا كان هؤلاء المبدعون الذين يغرسون حب القصة القصيرة كتابة وقراءة ونشراً ينجبون ميليشيا قصصية شابة فما أجملها من ميليشيا لأنها للابداع وليس لأي أمر آخر.
لقد استوقفني اهتمامهم بالتجارب الخاصة في القصية الأمريكية اللاتينية التي تنتمي إلى ما يسمى بالقصة الفنتاستيكية حيث استوقفتهم تجربة الأرجنتيني خوليو كورتاثار ومواطنه الفذ خورخي لويس بورخيس وقد ضمته مجلة (قاف صاد) في عددها السادس وضمن وثائقها الإبداعية حوارين مهمين مع هذين الكاتبين.
هذا عدا ما نشر في سلسلة (قصص فانتاستيكية) من كتب مترجمة عن الأسبانية والبرتغالية.
في لقائي ذاك الذي تم يوم 21 فبراير 2009م كانت الأسئلة التي وضعها أمامي أخي مصطفى جباري تذهب بي إلى التجربة الكتابية من داخلها في عملية كشف وبوح هي أهم ما يمكن التوقف عنده لدى أي كاتب يتحدث عن تجربته من الداخل وهي تجربة إن بدت بشكل معين فإنها ستأخذ مسارات أخرى تحقق للتجربة هذا الثراء الذي لابد منه لكي تكون التجربة مجدية - تضيف ولا تكرر، تتفرد ولا تستنسخ.
كنا - جيل الستينيات- معنيين بالتجريب ونشدان الاضافة والاختلاف حتى لا تحال تجاربنا إلا لنا، وليس هناك من يرجعها إلى غيرنا.
وقد قلت: قد يبدو هذا أمراً أكبر منا، أكبر من أعمارنا وتجربتنا الحياتية والابداعية حيث كنا في العشرينيات من أعمارنا وقتذاك، ولكن لابد من المحاولة وصولاً إلى تحقيق النتائج.
لكن ما توقفت عنده في هذا السياق هو انه ليس هناك تجريب واحد، بل تجريبات ان جاز لي القول حيث لكل كاتب مرجعيته التي ينطلق منها فمن يأتي من الفن التشكيلي - كحالتي- له تجريبيته المختلفة عن الذي يأتي من علم الاجتماع أو القانون أو الشعر أو السينما أو الطب... الخ.
لأن هؤلاء - ولدينا رموز مهمة منهم- يشكلون القراء ويحققون الاثراء بعطائهم.
لكن بعد تراكم أعمال أي كاتب منا لابد له أن يسائل تجربته، وهذا ما حصل لي.
قلت لهم أيضاً: إنني بعد أربع مجموعات قصصية كتبت روايتي الأولى (الوشم) ولم أكن أريد كتابة رواية بقرار مسبق، بل إن التجربة هي التي أخذتني ومضت بي.
ومع هذا لم أنس أنني كاتب قصة قصيرة عندما لم أتردد عن حذف ثلثي ما كتبت وهذا ما سلحتني به القصة القصيرة من جرأة في الشطب وعدم الخوف ولذا فإن (الوشم) بصفحاتها التسعين التي ظهرت بها ما كان لها أن تظهر بهذا الشكل لولا روحية كاتب القصة القصيرة.
وكان لابد من تفصيل لقصص مجموعتي الأولى (السيف والسفينة) التي صدرت طبعتها الاولى ببغداد عام 1966م لتصدر في القاهرة وبيروت ثم في تونس بطبعتها الرابعة عام 1996م التي سميناها (طبعة احتفائية) بمناسبة مرور ثلاثين سنة على صدور طبعتها الأولى وتتقدمها آراء مجتزأة من مقالات كتبت عنها لأكثر من أربعين كاتباً.
وما دمت قد تحدثت عن مرجعيتي التشكيلية فلابد من ايراد نماذج انعكس عليها انبهاري بهذه المدرسة أو تلك وبهذه التقنية أو تلك من الانطباعية إلى السريالية إلى الكولاج، في مجموعتي البكر هذه التي هي أشبه ب (ما نفيستو) الكتابة القصصية لدي.
أمام نخبة من متلقين يصغون جيداً يجد الكاتب نفسه متدفقاً، لتكون أجوبته على الأسئلة التي تلقى عليه حميمية لا تصنع أو تكلف فيها.
لقد نسيت انني تحدثت قرابة الساعتين وكنت سعيداً بهذا اللقاء الاستثنائي مع كتاب شباب لا يقرؤون ذلك فقط بل ويدخلون كتابتك إلى مختبرهم ليعرفوا ما فيها ولينصتوا حتى إلى ما لم تقله.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7902» ثم أرسلها إلى الكود 82244
تونس