هذا مضمون جيد لما قاله الدكتور هيكل، لا أوافقه على أن النقد فترة زمنية تأتي في أوائل عهد الشباب لدى الكثيرين ثم ينتهي موعدها، وينصرف الناقد إلى فن آخر، لأن واقع الحياة الأدبية لدينا لا يثبت ذلك، فالأستاذ عباس محمود العقاد، والأستاذ المازني، والدكتور طه حسين، والأستاذ مصطفى صادق الرافعي، ظلوا يزاولون النقد في جميع أدوار حياتهم، ولم يصدق ما قاله الدكتور هيكل عليهم، بل صدق عليه وحده، وهو أدرى باتجاهه وما دعا إليه من تغيير في منهجه الأدبي! والذين ردوا على هيكل ما قال، ذكروا أن من أدباء أوروبا من كان النقد وظيفتهم طيلة حياتهم، من المنبع إلى المصب، والمسألة أظهر من أن تكون موضع خلاف، على أن الدكتور لم ينقطع عن النقد حتى وهو في معمعات التاريخ باحثاً عن فصول السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين، كان يحن في الفينة بعد الفينة إلى كتابة ما ينتمي إلى النقد من فصول، لأنه لا يستطيع إسكاب مشاعره النقدية، وهو باحث كاتب ناقد، ظهرت آثاره النقدية للقراء من قبل فلاقت الاعجاب، وسأضرب لذلك بعض الأمثلة مما كتبه هيكل الناقد بعدما أعلن عزوفه عن النقد، وذكر أسبابه التي أشرت إليها آنفاً.. على أن الرجل كان متواضعاً فلم ينشر هذا النقد في مجموعة تالية، كما فعل في كتاب - ثورة الأدب - وإن كانت مجلة السياسة الاسبوعية قد سجلتها على مدى ثلاث سنوات، ومن أهم ما كتبه إذ ذاك نقده لكتاب - أبو العلاء في سجنه - للدكتور طه حسين.. أجل كان لهيكل رأيه فيما ينشر من الكتب، وهو في نشوة الحديث عن السيرة النبوية العطرة.. وعلى سبيل المثال، أذكر ما كتبه عن رواية (شهرزاد) للأستاذ توفيق الحكيم، فقد أثنى عليها ثناء لم أجد مثله في كل ما كتب الدكتور هيكل عن المؤلفات الأدبية المعاصرة.. وحسبك أنه أعاد قراءتها عدة مرات، وقد قال بالعدد - 42 - من مجلة الرسالة: (تلوتها للمرة الأولى فاغتبطت، ثم للمرة الثانية فأعجبت، ثم جعلتها بعد ذلك سمير أويقات السأم، أتلو فيها بعض صحف من منظرها الأخير فأستريح للتلاوة وأبرأ من سأمي.. وإن الفضل في اغتباطي ثم في إعجابي يرجع إلى فن الأستاذ توفيق الحكيم، هذا الفن الذي يجاري أحدث الفن في أوروبا).. وهذا الثناء الكبير لا يمنعني أن أشير إلى نقد وجه لهذه المسرحية، كتبه الأستاذ دريني خشبه، حيث أخذ على الحكيم أنه جعل شهرزاد ليست فتاة شريفة، ترتفع بالمرأة إلى مستوى لائق، بل جعلها تترك زوجها الملك، وزيون الذي يهيم بها حباً صامتاً دون أن يجرؤ على إعلان حبه، ثم ترتمي في أحضان عبد أسود كريه الوجه، لأنه قوي العضلات ويرضي رغبتها الجنسية، وهذا ما دفعها إليه.. لقد كان تصوير شهرزاد بهذه الصور الشائنة موضع نقد كبير لدى الأستاذ دريني خشبه، ولعله نسي أن الأستاذ توفيق الحكيم يصور قهر الغريزة الجنسية وتحكمها في النفس البشرية، لدرجة لا تعقل فاتحاً شهرزاد، لتكون وسيلة لتصوير الرغبات المنحطة في الإنسان.
على أن الدكتور هيكل لم يُخل الرواية رغم ثنائه الكبير عليها، من نقد صائب حيث قال في ختام مقاله: (لكنني لاحظت عليها كأثر آثار توفيق الحكيم)، ما لا يتفق وكان واضحاً في رواية (أهل الكهف) وفي قصته - عودة الروح -، وفي آثاره الوجيزة الأخرى التي تنشر في المجلات الأدبية، فقد كان بروز الشخصيات ووضوحها بعض ما امتازت به هذه الآثار كلها.. أما في - شهرزاد - فالكل فلاسفة في قوة واحدة، الملك والعزيز قمر، وشهرزاد والعبد والجلاد والساحر يتحدثون، ومنطق كل واحد منطق الآخر، وقوته قوته، وأنوثة شهرزاد أنوثة فلسفية، وحب قمر إياها أقرب أن يكون حباً فلسفياً، لا يخضع لعفيف الحب إلا بالكلام، وهنا رأينا مأخذاً وإن سترته قوة المسرحية، لكنه لا يغض من قيمة أثر له من الإكبار ما قدمنا).. كما أني لا أنسى موقفه الصريح من كتاب (على هامش السيرة)، للدكتور طه حسين، حيث قال الدكتور هيكل عن صديقه الكبير في جريدة السياسة، في شهر ديسمبر 1933م.. إن طه سلك في هذه القصص طريق كتاب الغرب، ممن يتحدثون عن الأساطير القديمة ينشرونها ويزيدونها، وطه إنما قصد إلى إحياء الأساطير بهذا الكتاب، وهي لن ولم تكن أساطير يضيق بها العقل ويأباها المنطق، فليس العقل في الأدب كل شيء، وليس العقل في الحياة كل شيء، ذلك ما قاله طه، ولكن هيكل يرى ألا تتخذ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مادة لأدب الأسطورة، لأن النبي وعصره وسيرته تتصل بحياة المسلمين جميعاً، بل هي فلذة من هذه الحياة، ومن أعز فلذاتها وأكبرها أثراً في توجيهها.. ومن أجل ذلك أرجو أن يفصل طه فيما يكتب بعد من فصول تجري مجرى - على هامش السيرة -، بين ما يتصل بالعقائد وما لا يتصل بها).. وهذا كلام سديد في بابه، وقد كتب أدباء كبار سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بأسلوب قصصي، مثل عبد الحميد جودة السحار، وعبد الحميد المهدي، وإبراهيم رمزي، وقد جعلوا الحقائق نصب أعينهم، ولم يضيفوا إلى ما كتبوه شيئاً من الأساطير.. وبقراءة مجموعة على هامش السيرة، نجد أن الأساطير لم تتمثل إلا في الجزء الثاني فقط، أما الجزء الأول والثالث فيخلوان منها، وهما بذلك غذاء صالح لمن يريد التمتع بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والسؤال الثاني الذي أضيفه إلى السؤال الأول، هو: لماذا اتجه الدكتور محمد حسين هيكل إلى النبوة والخلفاء الراشدين بالذات؟ لأن كتاب حياة محمد وفي منزل الوحي والصديق أبوبكر والفاروق عمر وعثمان، كلها تتحدث عن العصر الإسلامي في قوة وإيمان، وقد لاقت صدى واسعاً من القراء، بحيث تعددت طبعات كتاب (محمد) فبلغت خمس عشرة طبعة! والذي يدعو إلى هذا السؤال، أن الدكتور هيكل كان قبل هذا الاتجاه يدعو دعوات متلاحقة إلى إحياء التاريخ الفرعوني، إذ يرى في سيرة خوفو وتحتمس ومينا ورمسيس وأحمس، مثالاً للبطولة المصرية التي سيطرت على كثيرٍ من الدول.. وفي إحياء هذه البطولات بعث لهمم الشباب المعاصر، فالتاريخ الفرعوني في رأي هيكل - منار البعث.. وكتاب ثورة الأدب يحفل بهذه الدعوة ويرددها ترديداً بالغاً، ومما قال الدكتور هيكل في ذلك، في صفحة - 126 - طبعة ثالثة: (لا سبيل إذن إلى إنكار الاتصال النفسي الوثيق الذي يربط تاريخ مصر منذ بدايته إلى عصرنا الحاضر.. وكلما تمثلت الأمة آثار آبائها وأجدادها جميعاً بالغاً ما تعدد في غيب الماضي، فمن حق المصريين ومن الواجب عليهم أن يستثيروا دقائق أجدادهم جميعاً، وأن يربطوا بين حاضرهم وماضيهم ربطاً ظاهراً لكل عين، وأنهم إذاً ليضيفون إلى قوتهم قوة، ويضاعفون مجدهم أضعافاً.. والسبيل إلى ذلك كله البحث عن موضع الاتصال بين مصر القديمة ومصر الحديثة، في ميادين الأدب وكتبه والعقائد والطقوس، والمقال الذي نُشر بعنوان (التاريخ والأدب القومي) في كتاب - ثورة الأدب - ومنه اقتبست هذه الشذرات، يقع في أكثر من عشر صفحات من القطع الكبير؛ ولا استطيع أن ألخص كل ما ينحو هذا النحو مما جاء به، فإليه يرجع القارئ إن أراد..
هذا الإلحاح المتكرر في مقالات العهد الأول من حياة هيكل، قد انقلب إلى دعوة أخرى، لا ريب أنها هي الأوفق وهي الأصح، وذلك حين اكتشف أن الدعوة إلى الفرعونية، مثلها دعوته إلى الحضارة الغربية، كلتيهما لا تجديان نفعاً بالنسبة لمجد الأمة المصرية، إنما النفع الحقيقي في دعوة إلى إحياء مجد الإسلام والبطولات الإسلامية، لأنها هي التي تملأ الشعور المصري وغيره بالحب والإخلاص.. يقول الدكتور هيكل في كتابه (في منزل الوحي) ص - 24-: لقد حاولت أن أنقل إلى أبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية؛ لتتخذها جميعاً هدىً ونبراساً، لكني أدركت أني أضع البذر في غير منبته، فإذاً الأرض لا تتمخض عنه، ولا تبعث الحياة عنه؛ وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعنة، مؤملاً لوحي هذا العصر، ينشئ فيه نشأةً حديثةً، فإذاً الزمن، وإذاً الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب، قد يصلح بذراً لنهضة جديدة؛ ورويت فرأيت التاريخ الإسلامي هو وحدة البذور الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس؛ وتجعلها تهتز وتربو؛ ولأبناء هذا الجيل في الشرق نفوس قوية خصبة تنمو فيها الفكرة الصالحة لتؤتي أكلها بعد حين).
وبالإجابة عما تقدم من الأسئلة الخاصة باتجاه الدكتور هيكل المختلف في حياته؛ حياة الشباب وحياة الكهولة؛ ندرك ما عاناه الرجل الكبير في سبيل البحث عن مكان أمين؛ يرتكز إليه حتى وفق إلى التاريخ الإسلامي، بدءاً برسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ ومروراً بالكبار من صحابته المجاهدين؛ ولم يدخر جهداً في توضيح معالم هذا العصر بأسلوب نير مضيء، كان كسباً للدعوة الإسلامية قبل أن يكون كسباً للأدب العربي، وهو بذلك يكون قد فاز بالحسنين، عن جد بالغ وإخلاص متين.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 5013 ثم أرسلها إلى الكود 82244
- جدة