غادة السمان، المرأة الدمشقية، الأديبة المرهفة الحس منذ أن أدركت الكتابة، واحترفت الوعي. النازحة في غربتها على ضفاف نهر السين الباريسي منذ عقود، لكنها ورغم هذا النأي لم تزل هي ذاتها تلك المرأة الدمشقية التي قال عنها الشاعر الراحل نزار قباني: إنها صوت دمشق الأصيل حينما تهذي سيرة الوطن في أحضان الغربة، وتبوح بلواعج الفقد في هجير الوحدة الخانقة هناك.. في المنافي البعيدة.
غربة الدمشقية الأنيقة غادة السمان تنصهر على هيئة عطر باذخ الروائح، ومشهد ذائع الجمال.. ذلك الذي ينفح سيرة الوطن كاملاً، ومن ثم المكان الأثير دمشق.. حيث لا تجد صعوبة في بناء علاقة ما مع ما تكتبه عن المدن، لتستشرف من خلال أوراقها وحروفها أنها معنية بالمدينة التي تختزنها في الذاكرة؛ لتقيم هذا الحب ديباجة دائمة الترديد: (وطني أنت.. وأنا الكبير في قامتك.. العزيز في مهابتك.. فمتى أقرر المجيء إليك.. لا أدري؟!).
المدينة العشق هي (دمشق).. فالهاجس الماثل للعيان هو حب حالم بين الأديبة المفوهة غادة ومدينتها الساكنة في وجدانها، فهي التي تقيم منذ عقود ثلاثة ونيف على ضفاف نهر غربتها (السين) الباريسي، إلا أنها تتمنى أن ترى فيه (بردى) النهر الدمشقي الخالد في القلب والوجدان.
فالدمشقية غادة السمان غير قادرة أن تستبدل السين ببردى، حتى وإن أطالت التأمل في سقسقات مويجات السين المتتابعة، فهي المولعة في عشق أماكنها الدمشقية العتيقة، واستعادة أحلامها الأثيرة، وتكريس حبها الخالد لمدائن الشام التي عرفتها الإنسانية منذ قرون.
الحب لدمشق لدى الشاعرة والأديبة غادة السمان تتوجه حالة البوح النابه، والحس الوجداني المرهف لكل ما هو شامي أو عربي يفيض جمال الذكرى بأن هناك من تحبهم، وتسعى إلى وصلهم رغم اتساع فلاة الغربة، وتعاظم الفقد لأبسط الحقوق، فهاهي تطل هذه الأيام بسيرة سردية عن حب الأرض، ونهراها الذي ترى بأم عاطفتها أنه لا يعادله أي نهر في العالم.
غادة محملة دائماً على روي الوجد، ومقام الهيام بأي شيء جمالي ولاسيما كل ما له علاقة بشامها الساكن في وجدانها، وبنهرها (بردى) الذي تحبه منذ أمد وكأنه جزء من حياتها، وكثير من تكوينها الحياتي الذي لا تستطيع الانفصال عنه؛ لأنه بات معادلة إنسانية مهمة في وجودها؛ فقد يذكرها (السين) بضفتيه الباذختين بجريان (بردى)، وتساوق عذوبته في جوف مدينتها دمشق الأثيرة دائماً.
يا غادة الدمشقية.. عشق (بردى) لن تنجي منه حتى وإن سعت الوشاية بينكما، وقيل إن بردى لم يعد سوى عين دامعة بقذى، لكن تقولين: إن (بردى) كلما تذكر أهله زاد جرياناً، وتعلّق بالأرض مثل أهلها، وكأنه لم يكن نهراً إنما إنسان يشعر بحب من حوله؛ ليبادلهم الوجد بالوجد، والمحبة بمثلها، وعلى هذا المنوال تسير علاقة النهر الجميل بمدينته، وأهله..
يحنو (بردى) حتى على الغرباء، وعلى الذين تركوه أو هجروه، أو غادروا عنه، بل هو الذي يحن إليهم، ويشتاق إلى أن يخوضوا بمائه متى ما قدر لهم ذلك، فمتى ما عادوا سيجدون نهرهم وقد تجدد، وزاد جريانه حفاوة بهم؛ ليبادلهم دفء المشاعر.
فحرارة الشوق بينهما هي التي تصهر جليد أعالي الجبال؛ ليسيل في أخاديد النهر الذي يعشق المدينة ويهبها الحب، ويبادلها الشوق والحنين لعودة الراحلين الذين ناءت بهم الغربة، وتفرقت بهم السبل.