لقد أصبحَ المقال وجبة يومية لا يمكن الاستغناء عنها لدى الكثير من شرائح مجتمعنا كنتيجة حتمية للانفجار المعرفي والتقني الذي أدى لتنامي الوعي وأتاح المقال للقارئ في أي مكانٍ كان وأي وقتٍ شاء، ولا بد من القول أن المقال هو الصوت المرتفع لمجتمعٍ ما أو رأي ما وهو سلاح الكتّاب باختلاف اهتماماتهم وأطيافهم. و لطالما كان للمقال دوره الفاعل في تسليط الضوء على إشكاليات وأزمات وقضايا هامة وتحريك الدوائر ذات الشأن والصلة في إتخاذ إجراءات نافذة وحاسمة لمعالجتها أو التعاطي معها، كما أن للمقال الدور الأبرز في خلق حراك ثقافي أدبي بين مختلف التيارات والتوجهات ولابد من أن أذكر أنه يكون في كثيرٍ من الأحيان نواةً لكثير من النظريات الفكرية الحديثة، ولكنّ توسع وانتشار المقالات وزيادة الإقبال على قراءتها لم يؤدِ في كثير من الأحيان لازدياد تأثيرها بسبب الإشكاليات التي أعاقت ذلك ولعل من أبرزها:
1_ اتساع ما يسمى بمحسوبيات النشر الذي أدى لارتفاع كمي في عدد الكتاب قابله ضعف نوعي، كما أن الكتابة اليومية لدى البعض استنزفت عطاء الكاتب وأثّرت على جودة وقوة مقالاته.
2_ إحجام بعض الدوائر ذات الشأن والصلة عن التفاعل مع العدد الهائل من المقالات وذلك لكثرتها وغياب أو تقاعس الجهة الإعلامية التي مهمتها المتابعة والتفاعل في تلك الدوائر.
3_قصر الأعمدة الرئيسية على مقالات كبار وقدماء الكتّاب الذين استنفذوا أفكارهم وأطروحاتهم ويقابل ذلك تضييق الهامش المتاح للشباب المثقف الواعد، ما أدى لظهور مقالات باهتة غير مواكبة لهموم وتطلعات العصر والمجتمع. ومما يرثى له أن يصبح المقال في حد ذاته غاية لا وسيلة وظهور ما نستطيع تسميته ب (الكتابة لأجل الكتابة) لأسباب اجتماعية أو سيكولوجية أو أيدلوجية لا تخفى على المهتمين كما أن فوز أحدهم بلقب كاتب أو مثقف أو ناشط اجتماعي أمر يبحث عنه الكثير! بالإضافة إلى أن الكتابة قد تفقد بريقها إذا استمر الكاتب في ممارسة التحبير دون تزودٍ أو إطلاعٍ أو تطوير مع الإحجام عن النقد البناء والمساحة الاجتماعية والثقافية، فغالباً ما يكون استغراق الكاتب في نخبويته أو إفراطه في التحدث في كل شأن وفي أي وقت بداية انحسار المقال ومن ثم ضموره.
ولعلي سأقف إزاء المقال الأدبي إنطلاقاً من كوني شاعرة ومهتمة بهذا الشأن لذا يجب القول بأن المقال الأدبي يعاني حالياً من الانكماش في مساحات محدود أو ملحقات أسبوعية أو شهرية مما يقصر قراءها على النخبة المتأدبة وكان تلافي هذا أو تقليله متاحاً فيما لو أُسرجت تلك المقالات في ثنايا الصفحات المختلفة أو زيدت المساحة المخصصة أو تم دمج الصفحات الثقافية الأدبية في الصحيفة دون أن تكون في جزءٍ مستقل قد يُسقطهُ القارئ سهواً أو عمداً أثناء شرائه الجريدة أو يغفلُ ذلك الجزء في الصحيفة الإلكترونية.
كما أن تمركز بعض الكتّاب القدماء يجعل بقية الأدباء يترامون في أطراف الجريدة فيما يضيق المكان بآخرين، فتبدو المساحة الأدبية صورة مستنسخة تقليدية في كل عدد مع تغير بسيط مما يفقد المقال روح التجديد والإثراء ويبعثُ في نفس الملتقي الملل الذي يؤدي إلى الإحجام عنها ومن ثم انكماش أثرها.
إلا أن النشر الإلكتروني وما يتميز به من مرونة وتفاعلية خصوصاً في المواقع التخصصية ساهمت في ظهور جيل جديد من المقالات الأدبية المتفردة في طرحها وأفكارها فسحبت إليها القارئ العادي فضلاً عن النخبوي فارتفع بذلك مستوى التأثير.
- الجوف