رأينا في المساق السابق كيف أن العرب يعبّرون باللون الأحمر عادةً عن الأبيض. فهم يقولون: امرأَة حمراء، أَي بيضاء. وفي الحديث: «خذوا شَطْرَ دينكم من الحُمَيْراءِ»؛ يعني السيّدة عائشة، رضي الله عنها، تصغير الحمراء، يريد البيضاء. والعرب إذا قالوا: فلان أَبيض وفلانة بيضاء، فمعناه الكرم في الأَخلاق لا لون الخِلقة، وإِذا قالوا: فلان أَحمر وفلانة حمراء عَنَوا بياض اللون.(1) وما زال ذلك في بعض لهجات الجزيرة إلى اليوم، إذ يقولون: «فلان حَمَر»، أي أبيض بيّن البياض. بل إن اللون الأحمر في كلام العرب البلاغي يتجاوز التعبير عن بياض المرأة في ذاته إلى التعبير عن الجمال بعمومه، كما يدلّ على ذلك الشِّعر العربي.(2) فيما أورد (الأزهري)(3): «حكى الأصمعيّ عن بعض العرب أنه قال: ...شرّ النساء السويداء الممراض، وشرّ منها الحُميراء المحياض.» ففرح بعض الطاعنين في السيّدة عائشة بهذه الجملة أيّما فَرَح؛ ظنًّا أنهم قد وضعوا أيديهم أخيرًا على طعن الرسول في زوجته! مع أن القائل «شرّ النساء السويداء الممراض، وشرّ منها الحُميراء المحياض» إنما يشير إلى «السوداء» كثيرة المرض منهن و»البيضاء» (أو الحمراء- كما تصف العرب المرأة البيضاء) كثيرة الحيض. فلا علاقة لصفة «حميراء» بالحيض ولا بالمحياض في المعنى، لولا التمحّل لأغراضٍ معروفة! ومن ثمّ فإن صفة «حميراء» صفة مدحٍ للمرأة، وهو ما عناه محمّد في حقّ عائشة، كما عناه العرب في وصف المرأة. وهو عُرْفٌ تعبيريّ جماليّ، يعرفه مَن له أدنى إلمام بكلام العرب، كما أثبتنا في المساق السابق. وقال (البكري)(4): «كذلك تقول العرب للرجل البارع الحُسن: «أحمر وقّاد». ومنه حديث مسمع بن يزيد قال: مررت بالمدينة زمن عثمان، ومعي نَوْف الغفاري، وكان أعلم الناس بالحَدَثان، فمرّ بنا مروان بن الحكم فقال لي: يا مِسْمَع أترى هذا؟ قلت: نعم. قال: هو صاحب الأمر إذا مَرِج أمر الناس. قال مِسْمَع: فتأمّلته فإذا هو أحمرُ وقّاد. وأصل هذه الصفة الغالبة من اللون وظهور الدم في الوجه لاشكّ فيه، ألا تراهم يشبّهون المرأة الحسناء بالنار. قالت الأعرابية وقد سُئلت عن بنتها: والله لهي أحسن من النار المُوْقَدة في الليلة القَرّة. وقال الشاعر وهو من أبيات المعاني في النار:
وحمراءَ غبراءَ الفروعِ مُنِيْفَةٍ
بها تُوْصَفُ الحسناءُ أو هي أَجْمَلُ».
وأورد (بدر الدين الغزي، -984هـ)(5): «عن عبد الله بن سَرْجِس، قال: أتى الضحّاكُ بن سفيان الكلابي إلى رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قبل بيعته، ثم قال: عندي امرأَتان أَحسن من هذه الحُمَيراء، أَفلا أنزل لك عن إحداهما فتتزوَّجَها؟ وعائشة جالسة تسمع قبل أَن يُضرَبَ الحجاب، فقالت: أَهي أَحسن أَم أنت؟ قال: بل أَنا أَحسن منها وأكرم، وكان امرءًا دَميمًا قبيحًا! قال: فضحك النبي، صلّى الله عليه وسلّم، من مسأَلة عائشة إِيّاه.»
وجاء عن (عَزَّة)، محبوبة (كثيّر عَزَّة)، أنها كانت «حُمَيراء»، حيث أورد (الأصفهاني)(6): «أخبرنا الحرمي، قال حدثنا الزبير بن بكار، قال حدثني يعقوب بن حكيم السُّلَمي عن قسيمة بنت عِياض بن سعيد الأسلمية، وكنيتها أُمّ البنين، قالت: سارت علينا عَزَّة في جماعة من قومها بين يدي يَربوع وجُهَينة، فسمعنا بها؛ فاجتمعت جماعة من نساء الحاضر، أنا فيهنّ، فجئناها فرأينا امرأةً حُلْوَةً حُمَيراء نظيفة، فتضاءلنا لها، ومعها نسوةٌ كلّهن لها عليهنّ فضلٌ من الجمال والخَلق، إلى أن تحدَّثت ساعةً، فإذا هي أبرع الناس وأحلاهم حديثًا، فما فارقناها إلاّ ولها علينا الفضلُ في أعيننا، وما نرى في الدنيا امرأةً تروقها(7) جمالاً وحسنًا وحلاوة.»
ذاك، إذن، هو المعنى المقصود بصفة «الحُمَيراء» في كلام العرب حين تنعت بها المرأة.
لقد نهضت السيّدة عائشة في (فتنة الجَمَل) قائدةً لجيش أهل البَصْرة، مطالبةً بإقامة الحدّ على قَتَلة عثمان، رضي الله عنه، قبل الخوض في أيّ بيعةٍ أو خلافة، لعليّ، رضي الله عنه، أو غير عليّ. وهو موقف مبدئيّ اجتهاديّ، يُحسب لها. ويأتي على الرغم من عدم رضاها قبل ذلك عن سياسة عثمان، وعلى الرغم من أن أخاها محمّد بن أبي بكر كان في الطرف الخصم من المعركة. ما يدلّ على أن أولئك القوم -رجالاً ونساءً- إنما كانت تحرّكهم المبادئ التي آمنوا بها، لا العواطف الذاتيّة أو الأسريّة، حتى إنك لترى الأخ وأخته أو الأخ وأخاه في فريقين مختلفين. وهذه ذروة الحريّة الفرديّة والاستقلال في الرأي، بعكس ما كان عليه الأمر في الجاهلية، حيث كان الولاء المطلق للقطيع، أو «لغُزيّة»، كما عبّر دريد بن الصمة، إنْ تَغْوَ وإن تَرْشُد! وهذا التحوّل هو ما لم يستطع استيعابه ذوو العقليّات التقليديّة- حيث الولاء الأعمى للجماعة- مذ ذلك التاريخ حتى اليوم. فكيف إذا جاءت ثورة الاختل اف بقيادة امرأة؟! فتلك لعمرو الله قاصمة الظهر الذكوريّ الجاهليّ؛ أوّلاً لخروجها عن عقليّة القطيع، أُسريًّا أو قَبَليًّا أو سياسيًّا، وثانيًا لأنها من قِبَل امرأة، وما للمرأة إلاّ السمع والطاعة والصمت، وأن تخسأ صاغرةً في بيتها، منتظرة ما يقرّره الرجال! بل لقد وُظّف «الدِّين» لقمع المرأة، لتصبح في الإسلام أقلّ شأنًا وشخصيّة حتى عمّا كانت عليه في الجاهليّة، و(هند بنت عتبة) نموذجٌ دالٌّ هنا! كلاّ، لم تكن عائشة بتلك المرأة الأَمَة، أو الدُّمْيَة، أو المنقادة المدجّنة، فكان لها موقفها الحاسم، بغضّ النظر عن الخطأ والصواب، كما كان لأبيها موقفه من قبل، ثاني اثنين لا ثالث لهما إلاّ الله، وإنْ خالف سادة أهله ومجتمعه، ذلك الأب الصدّيق الذي قال فيه (فريد الدِّين العطّار) (8) حكمته الدامغة: «فإن قَبِلْتَ أنتَ «ثانيَ اثنين»، فإنه ثاني الاثنين بعد الرسول»! وكما كانت لأسماء بنت أبي بكر (ذات النطاقين) مواقفها كذلك، منذ الهجرة حتى معركة اليرموك. إنها أُسرة إباء ومواقف واختلاف. وعلى الرغم من نشوب الخلافات فقد كان الصحابة يُجلّون أمّ المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، ويفقهون قدرها، ومكانتها من النبي صلى الله عليه وسلّم، بمَن فيهم عليٌّ، رضي الله عنه، وحاشاهم أن يكونوا بأخلاق سفهاء جاؤوا بعدهم، منتحلين الانتماء إليهم. جاء في خبر الجَمَل: «فلمّا انهزموا أمر عليٌّ مناديًا، فقال: ألا لا تتبعوا مُدْبِرًا، ولا تُجْهِزوا على جريحٍ، ولا تَدخلوا الدور. وأَمَرَ عليٌّ نفرًا أن يحملوا الهودج من بين القتلى، وأمر أخاها محمّد بن أبي بكر أن يضرب عليها قُبّة. وقال: انظر، هل وصل إليها شيءٌ من جِراحة؟ فأدخل رأسَه هودجها، فقالت: مَن أنت؟ فقال: أبغض أهلكِ إليكِ! قالت: ابن الخثعمية؟! قال: نعم. قالت: الحمدلله الذي عافاك! وقيل: لما سقط الجمل، أقبل محمّد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر إليه، فاحتملا الهودج، فنحّياه، فأدخل محمّدٌ يده فيه، فقالت: من هذا؟ قال: أخوك البَرّ! قالت: عُقُق! قال: يا أخيّة هل أصابكِ شيء؟ قالت: ما أنت وذاك؟ قال: فمَن، إذن؟ الضُّلاّل؟ قالت: بل الهُداة! وقال لها عمّار: كيف رأيت بنيكِ اليوم يا أُمّاه؟! قالت: لستُ لكَ بأُم! قال: بلى وإنْ كرهتِ! قالت: فَخَرْتُمْ أنْ ظَفِرْتُمْ، وأتيتُمْ مثلَ الذي نَقَمْتُمْ؟! هيهات واللهِ لن يظفر مَن كان هذا دأبُه! فأبرزوا هودجها، فوضعوها ليس قربها أحد. وأتاها عليٌّ، فقال: كيف أنتِ يا أُمَّهْ؟ قالت: بخير. قال: يغفر اللهُ لكِ! قالت: ولكَ!»(9)
تلك هي الصورة المعقولة، واللائقة بمن ربّاهم رسولُ الله، وتنزّل فيهم كتابُ ربّهم، وهم أهل بيت النبوّة- وإنْ لم يرتفعوا، بطبيعة الحال، عن مستوى البشريّة في المراوحة بين خطأٍ وصواب- لا ما دَبَّجه أوباش الخلق في القرون المنحدرة من ترّهات وأساطير أرادوا بها بثّ الكراهية والأحقاد التاريخيّة، فما برحوا كالضباع تنبش القبور.
***
(1) انظر: ابن منظور، لسان العرب، (حمر)؛ الأزهري، تهذيب اللغة، (هجن).
(2) انظر: الفَيفي، عبدالله، (1996)،الصورة البَصَريّة في شِعر العميان: دراسة نقدية في الخيال والإبداع، (الرياض: النادي الأدبي)، 103- 104.
(3) م.ن، (غبي).
(4) أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز الأندلسي (-487هـ= 1094م)، (1936). سِمط اللآلئ المحتوي على اللآلئ في شرح أمالي القالي، تح. عبدالعزيز الميمني (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة)، 1: 463- 464.
(5) (1986)، المِراح في المزاح، بعناية: السيّد الجميلي (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينيّة)، 33- 34.
(6) (1983)، الأغاني، تح. لجنة من الأدباء (بيروت: دار الثقافة)، 9: 28.
(7) كذا، ولعله: تفوقها.
(8) (2002)، منطق الطير، دراسة وترجمة: بديع محمّد جمعة (بيروت: دار الأندلس)، 165. والإشارة إلى الآية: «إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا…» (التوبة: 40). فالعطّار يقول هنا: من قَبِل هذه الثنائيّة المشار إليها في الآية، اقتضي منه ذلك قبول خلافة الصدّيق بعد صاحبه رسولِ الله، بلا مراء.
(9) النويري (-733هـ)، (2004)، نهاية الأرب في فنون الأدب، تح. عماد علي حمزة (بيروت: دار الكُتب العلميّة)، 20: 47- 48.
الرياض
aalfaify@yahoo.com
http://khayma.com/faify