ماذا نسمِّي أصوات الآلات الحديثة، كالسيارة، والطائرة، والدبَّابة، والثلاجة، ونحوها؟
هذا سُؤالٌ مُهِمٌّ، والحاجة اليومَ إليه مُلحِفةٌ، لما استَجدَّ في حياةِ الناس من المخترَعات التي انصبَّت عليهم دِراكًا من كلِّ أُفقٍ، فلم يجِدوا عِلْمًا أثيلاً يرجِعُون إليه، ولا أصابُوا من رأيِ المتأخِّرين، واجتهادِهم ما يعتمِدون عليه، فكان من ذلكَ أن انطمست عليهم كثيرٌ من طُرُقِ البيانِ، ووجوهِه. وما بالعربيَّة نقصٌ، ولا ضَعةٌ، ولكنَّه تخاذلُ أهلِها، وقعودُهم عنها!
وسأذكرُ لك مذاهبَ العربِ في تسمية الأصوات، ثمَّ أدلُّك على القياسِ المستمرِّ الذي يشُكُّ لكَ الشاهدَ، والغائِبَ، ويحتازُ إليكَ القريبَ، والبعيدَ.
اعلمْ أنَّ للعربِ مذاهبَ في تسميةِ أصواتِ الأشياءِ، منها:
الأوَّل: أن يجعلُوها على حدِّ الثنائيِّ المكرَّر. وهذا كثيرٌ عندَهم، وهم به أعْلَقُ، وإليه أركَنُ. وذلك نحوُ (حمحَم)، و(صرصرَ)، و(جرجرَ)، و(قهقه)، و(غقغقَ) لصوت الفرَس، والطير، والبعير، والضحك، والغراب. وأمثلتُه تُضعِفُ على الحَصْرِ.
الثاني: أن يجعلُوها على حدِّ ما عينُه، ولامُه من جنسٍ واحدٍ. وهو دونَ الأوَّلِ. ومنه قولُهم: (فحَّ)، و(أزَّ)، و(صرَّ)، و(أنَّ) لصوتِ الأفعَى، والمِرجل، والطَّيرِ، والمريض. والغالبُ أن يجعلُوا المصدر منها علَى (فَعِيْل).
الثالث: أن يجعلُوها على غيرِ ذلك. والكثيرُ أن يبنُوا المصدرَ منها على (فَعيلٍ)، أو (فُعَالٍ)، نحو (صَهِيْل)، و(نُبَاح) لصوتِ الفرسِ، والكلبِ.
فهذه مذاهبُهم التي يتَّبِعونها، ويجرونَ عليها إذا أرادوا تسميةَ صوتٍ من الأصواتِ. وقد رأيتَهم في الضربِ الأوَّلِ كيفَ آدَمُوا بينَ اللفظِ، والمعنَى، ووصلُوا بينَهما بآصرةٍ حصيفةٍ، وجعَلُوا اللفظَ شافًّا عنِ المعنَى، نامًّا عليه، ألا ترَى أنَّه لو قرعَ سَمعَ امرئٍ لم يكن سمِعَه، لتهدَّى إلى معرفةِ دلالتِه، ولآنَسَ من تناسُقِ حروفِه على ذلكَ النَّحوِ ما احتجَبَ من معناه. وقد جرَّأهم على هذه الخُطَّة، ونهَجَ لهم هذا السبيلَ ما وجدوه من التآخِي بينَ الاسمِ، والمسمَّى؛ لأنَّ الاسمَ صوتٌ كما أنَّ المسمَّى صوتٌ. فلما استوسقَ لهم أمرُ التوفيقِ بينَهما، واستمكنُوا من زِمامِه، أمسكُوه، ولم يُفيتُوه؛ لأنَّ غايةَ البيانِ أن يكونَ في اللفظِ دليلٌ على المعنَى، وإشارةٌ إليه. وذلكَ أمرٌ لا ينقادُ لهم في سائرِ المسمَّياتِ، ألا ترَى أنَّ كلمةَ (رجُلٍ) ليس في حروفِها إخبارٌ عن مسمَّاها، ولا دَليلٌ عليه، فلو جعلتَها اسمًا لمسمًّى آخَرَ لساغَ ذلك، ولم يكن مستنكَرًا.
وكانَ سبيلهم في ذلك أن جعلُوا الاسم علَى حرفينِ مضاهًى بهما الصوتُ نفسُه، ثمَّ كرَّروهما على ترتيبِهما مَنْبهةً على أنَّ من شأنِ الصوتِ أن يتكرَّرَ. ومثالُ ذلكَ كلمةُ (القهقهة)، فإنَّهم وجدُوا الضاحكَ يصدُر منه لفظُ (قَهْ) مكرَّرًا، فسمَّوه بمثلِ لفظِه، وكرَّروه كما كانَ مكرَّرًا في الواقع، فقالوا: (قَهْقَهَ).
وأمَّا الضربُ الثاني، فإنَّه قريبٌ من الأوَّل. وذلكَ أنهم حاكَوا به الصوتَ، واجتزءُوا بتَكرارِ الحرفِ الثاني عنِ الأوَّلِ. وذلكَ نحوُ (الأزيز)، فإنَّه اسمٌ للصوتِ (أَزْ). وتَكرارُ الزايِ دلالةٌ على تَكرارِ الصوتِ حينَ يقعُ. وفي الياء امتدادٌ، واستطالةٌ تناسِبُ الصوتَ أيضًا.
وأمَّا الضرب الثالث، فإنَّهم أخلُّوا فيه بمحاكاةِ الصوتِ، واكتفَوا ببِنائه على (فَعِيْل)، و(فُعَال)، وجعلُوا الياءَ والألفَ في هاتين البِنيتين دليلاً على خصِيصةٍ من خصائصِ الأصواتِ، وهي الامتدادُ، والاستطالةُ.
فهذا بيانٌ لمذاهب العربِ ألحقنا به تفسيرًا له، وإيضاحًا.
فأمَّا ما يجوزُ للمحدَثِ قياسُه منها، فالضربُ الأوَّل. وذلكَ أن يستمِع إلى الصوتِ، وينظُرَ إلى أيِّ الحروفِ هو أقربُ، ويجعلَه على حرفينِ، ويكرِّرَهما. فإذا استمعَ إلى صوتِ السيَّارةِ، ووجدَه قريبًا من حرفِ العينِ تتبعُه النونُ، فإنَّه يكرِّرُهما، ويجعلُهما على (فَعْلَل)، فيقول: (عنعنتِ السيَّارة عنعنةً). وهذا قياسٌ لا ينكسِرُ.
وإذا أمكنَه أن يُلحِقَ بعضَ الأصواتِ الحديثةِ ببعضِ الأصواتِ المسمَّاةِ قديمًا، ويسمِّيَها بمثلِ ما سُمِّيت به، فهو جائِزٌ. وذلكَ مثلُ أن يُلحِق صوتَ الطائِرة، أو الدبَّابةِ بأزيزِ المِرجلِ، فيسمِّيَه (أزيزًا)، أو يُلحِقَ صوتَ المِكنَسة، أو الثلاجةِ بفحيحِ الأفعَى، أو صفيرِ الطائرِ، لتقاربِهما، فيسميَه (فحيحًا)، أو (صفيرًا). وهذه استِعارة لفظيَّة، أو غيرُ مفيدةٍ كما سمَّاها عبد القاهرِ في «أسرارِ البلاغة». وهي في الأصلِ قَصْرٌ على السَّماعِ، ولكنْ جازَ قياسُها في هذه المسألة لموضعِ الحاجةِ.
مكة المكرمة
faysalmansour@gmail.com