صحوة.. يقظة.. نهضة.. حضارة، هكذا بأربع كلمات جزلى يصدر الدكتور جاسم سلطان لمشروعه النهضوي الذي يتوقف عند الكلمة الثالثة متنازلا بعدها عن الأخيرة، فكأنما يخبر ضمنا أنه كفيل بثلاث خطوات فقط بينما الرابعة ليست بوسعه، فالحضارة منجز تاريخي لأمة أو شعب ما لن يقل عن قرن من الزمان، وهو التنازل الذي يدلل بلا شك على فكر الدكتور.
إن الصحوة التي تشكل المفردة الأولى في هذا المشروع لها آثارها الحية والحاضرة إلى اليوم كمرحلة تاريخية عاشها بعض الخليجيين، والسعوديين خاصة على مدى ثلاثة عقود ماضية، وبقطع النظر عن نتائجها وإفرازاتها، فهي مفردة ينشز منها الكثير، يقابلهم الكثير أيضا ممن يطرب لها، والشباب المؤمنون بمشروع النهضة هم المعنيون بعقد المقارنة بين الصحوة كخطوة أولى في مشروع النهضة ذي الرؤية الذاتية للدكتور، وبين الصحوة المرحلة التاريخية التي هي نتاج مئات الكتب والمشاريع والآلاف من الرجال، ماذا قد قدمت من الوقائع والأحداث والخسائر والأرباح خلال ثلاثين عاما من عملها الحركي والفكري المستمر، ومن ثم إن كان هذا المجموع الضخم والكبير من الجهود والاجتهادات لم يجترح حلول فكرية أو عملية يستشهد بها أو يشهدها الواقع المحلي و الخليجي، فكيف سيكون لذات واحدة مهما سمت قيمها وتوسع علمها وفكرها وتعددت تجاربها أن تقدم بقراءة شبه فردية حلولا شاملة لشعب أو أمة بأكملها.
هل يمكن القول إن الدكتور لم يتطرق بمشروعه إلى الأمة إنما للقطر أو لمجموعة المنتظمين في المشروع فقط لأنها كمفردة لم ترد في خطابه بالكثافة التي جرت عادة في غيرها من المشاريع الإصلاحية والنهضوية، ربما ولكن التسليم بهذا القول عليه أن يغض النظر عن كل التاريخ الدلالي والحي للمفردات الأربعة التي تصدر لهذا المشروع عدا عن الانتماء الإخواني السابق للدكتور جاسم.
تبدو اليقظة التي تمثل لفظيا ًالخطوة الثانية في الطريق إلى النهضة بمشروع الدكتور، مفردة ليس لها تاريخ الخطوات الأخرى لا على المستوى الفكري ولا على المستوى الحركي، مما يشكل حضورها وكأنه ترتيب لصياغة الوزن الموسيقي للجملة والصورة الذهنية لا أكثر، إذ إنها لا ترد في مقولات ومقالات الدكتور إلا قليلا، أما النهضة الهدف الأساس من المشروع فهي المفردة ذات الحمل الدلالي الأثقل من البقية، إنها بتاريخها الطويل ليست فقط مرحلة من التاريخ العربي الحديث بشر بها روادها من مختلف التيارات فأثمرت الشيء الكثير إلا أنها لم تبلغ البشرى التي أرادوا، ولكنها أيضا عصر مفصلي في التاريخ الأوربي أعاد تشكيل قارته والعالم أجمع، وللمقارنة أن تقوم هنا من جديد بين النهضة كهدف ضمن خطة فردية والنهضة في التاريخ كمرحلة وعصر.
وإن كان من الجائز أن يهدف الجميع دون استثناء إلى الإسهام في النهضة فإنه من السؤال الواجب أن نستفهم كيف يمكن لمجرد أكاديمية لإعداد القادة أن تعنون لمشروعها بأربع مفردات تحمل هذا الثقل التاريخي دون أن نفترض بذلك أنها تقدم حلولا شاملة بشمولية هدفها، ومن هذا تحديدا تكون المشاريع والرؤى الفردية تهزم أهدافها حين تخوض بحلولها الشخصية هموم جماعات تاريخية، لأن قدرتها على الاستثارة حين تشتغل بمفردات طبعت التاريخ وأسمت مراحله لا تعني قدرتها الفعلية على التأثير والنجاح العملي، إن تعريف مشروع النهضة بهذه الكلمات الأربع ما هو إلا اختزال غير واعي وقصور أساسي في لغة الخطاب، وإن كان الدكتور قد أدرك في انتمائه السابق أمرا دفعه للخروج عنه، فهو حتما يدرك أن اللغة هي الطريق الذي يتقدم من خلاله مشروعه الجديد، فما الجديد في مشروع النهضة إن كان الخطاب الذي نتج عن فكر «الإخوان المسلمين» الذي كان يحلم بتغيير الأمة وقيادتها للعالم من خلال معلم أكبر وقادة ميدانيون، هو ذاته الخطاب الذي يقدم لفكر الدكتور في تأسيسه لمشروع خاص عن إعداد القادة.
هل في هذه القراء مبالغة في تحميل الكلام ما لم يقله، ربما ولكن ماذا ستكون وظيفة اللغة إن لم يكشف التعبير بأقوالها عن تفكير صاحبه، ولعل الشباب المؤمنين بمشروع الدكتور يجدون مثالا أوضح فيمن اعتد كثيرا بالحكم على سياسة دولة بأكملها مثل أمريكا من خلال كلمة وحيدة هي الحروب الصليبية التي تلفظ بها الرئيس السابق بوش، ذلك لأنهم يدركون بشكل ما أن مفردات الخطاب ليست إلا تمثيل لفكر قائلها، دون أن يكون لقصدية القول من عدمها أهمية في الحكم، وإن لم يكن لهذه المفردات الأربعة حقيقة من هذا المشروع لماذا إذا تنازل الدكتور عن الحضارة وتوقفت رؤيته عند النهضة؟
لن يكون من المهم أن نريد الذي ندركه قدر ما يهم إدراك الذي لا نريده لأننا لا ندركه، أي أن نهضة الأمة ليست رغبة مجموعة دون غيرها أو فرد دون آخر، فماذا يعني أن يخوض الكل تيارات وحركات وأفراد في القول والترديد عن الذي يدركه الجميع ويؤمنون به كالنهضة والإصلاح وسواها، ليبقى غير المعروف واللامفكر فيه من اللامدرك كما هو متعاليا منقطعا عن الزمان والمكان، أليس البحث في الذي لم يقال من خلال ما قيل قراءة أولية تكشف الإمكان المعرفي الذي تنطلق منه الأفكار والآراء، اتجاهات القبول والرفض، أليس الإمكان باعتباره الأرضية التي تحمل المنطلقات الفكرية المشتركة والمسلمات الراسخة هو المنتج الخفي للفكر، وهو ما يمكن أن ندرك حقيقته غالباً من خلال الكلمات العابرة والارتجالية أكثر من تلك المتأنية والمدروسة.
كلمات مثل مفاهيم الأمة والهوية والمصير تتكرر في خطاب التنظيمات الحركية والمشاريع العملية، ووصفها عملية من حيث إنها تخوض الميدان بكراسة محددة من الأفكار تركز الجهد والاجتهاد على التنفيذ لا على التفكير والمراجعة، بينما في المشاريع الفكرية والدراسات التي تحمل الهم النقدي لا نجد لهذه الكلمات حضورا إلا في محاولة تعريفها أو تحليلها كمفاهيم كبرى.
ما المشاريع الفكرية إذن إلا دراسات معرفية تشتغل على الوعي الممكن لاستدراك أثر المفاهيم وكشف الدلالات من خلال تركيز الجهد على التفكير ونقد النتائج ومراجعة تطبيق المناهج ونتائجها، بينما في المشاريع العملية مثل مشروع النهضة فالهدف رغم عنوانه الكبير ينحصر على كراسة أفكار شخصية مرقمة تعمل على تفعيل رؤيتها الذاتية وتكرس الجهود البشرية لتنفيذها داخل أجواء توفر للمنتمي الاحتواء واللطف الأبوي المفقود، ومن ذلك تحديدا ندرك معنى دعوة الدكتور وهدفه في ضم الآلاف من الشباب إلى هذا المشروع، ولعل المطلب الشبابي كان لأسباب عدة أهمها الحاجة إلى الشعور بالانتماء والحماسة إلى العمل والأنشطة والروح التواقة لخدمة الدين.
وإذا ما كان الدكتور لا يعتقد بوجود سيناريو خاص للنهضة بالعموم ولنهضة الأمة خصوصا، فكيف يمكن أن يفسر ورود هذه المفردات في لغة المشروع والإصرار عليها حد مخاطبة المنتظمين بأنهم شباب النهضة، أليس في تخصيص النداء تخصيص للمنادى، فأن يكون المنتظمون هم شباب النهضة، فمن هو غير المنتظم، ألن يستحق إسهامه في النهضة من خلال مشاريع أخرى أن يكون من شبابها أيضا، من المؤكد أن الدكتور لا يقصد هذا لكن في تخصيص الخطاب اعتراف بالمنادى ونفي لسواه، هذا ما قد يدركه ذهن القراء أو الشباب بأن انضمامهم إلى المشروع هو الطريق للنهضة دون غيره وأنها مهمتهم هم دون سواهم وذلك من خلال عملية إدراكية لاواعية.
وفي هذا وما قبله تكون لغة المشروع قد نقلت أحد أكثر الأخطاء المعرفية شيوعا في الخطاب الإسلامي إلى أحد اجد أشكال المشاريع في الأحلام النهضوية من خلال ازدواجية القول الذي ظهر والقصد الذي خفي لكنه وصل.
على الطرف الآخر تعرف برامج إعداد القادة العالمية بأنها أنشطة مختلفة لتطوير مهارات القيادة لدى المنتظمين على المستوى الفردي أو ضمن مؤسسة ما، أي أن هدفها الرئيس هو الصفة القيادية بعيدا عن أي توجه فكري، فهي برامج علمية انطلقت من المجال الإداري لتطوير الأداء العملي فقط، أما أكاديمية الدكتور فهي تكرس ورش التدريب لتطوير القدرات لهدف ثانٍ هو تحقيق الرؤية العامة للمشروع، فلن يكن للمنتظم القدرة على الاستفادة من برامج الأكاديمية إلا وقد تمت تعبئته بتوجه وفكر المشروع على المستوى الآخر.
هل يمكن بهذا اعتبار مشروع النهضة نوع من صناعة الفكر؟ أو أنه مجرد أكاديمية تقدم برامج لتطوير الصفة القيادية على مستوى الأداء المعرفي والسلوكي؟
إذن السؤال هنا ليس في حقيقة جوهر المشروع وجدوى الفكرة الرئيسية له فقط، بل أيضا عن الكيفية التي يحضر بها في ذهن المتلقي قارئا أو منتظما، فاللغة التي تصدر كلمات الأمة والصحوة والنهضة تشترط السؤال عن حقيقة إيمان المنتظمين بفكرة المشروع بعيدا عن الأثر القوي والجاهز لهذه المفردات عليهم بما تحمله من تاريخ دلالي مكشوف ووقع عاطفي عميق مشحون باليأس والأمل بالدنيا والآخرة.
الرياض
Lamia.swm@gmail.com