لقد زارنا الراحل د. محمد عابد الجابري منتصف التسعينات في حلب ليحاضر في جامعتها ... حينها قمت بقراءة تأويلية اسقاطية لمصفوفته النظرية التأويلية، فقلت له: إن ثلاثيته عن (البرهان والبيان والعرفان) تسير في سوريا –وإلى حد كبير في عدد من الدول العربية الأكثر تأثرا بضروب الحداثة - بشكل معاكس لما يتغيّاه من حركية الفكر صعودا وتقدما من (العرفان إلى البرهان)، لأقول: إن سوريا الحديثة بدأت من فضاءات عقل البرهان في المرحلة الليبرالية العقلانية الدستورية مع قيام الدولة الوطنية الستورية منذ سنة1920، لتدخل مرحلة (البيان/الخطابة) مع الشعبوية الناصرية فالبعثية، حيث فكر وثقافة وايديولوجيا ممالأة وتملق سذاجات الوعي العام(العوام) عن الوحدة والحرية والاشتراكية، وانتهت إلى (العرفان) الذي يعادل التشيع وفق منظومة الجابري، وذلك من خلال الحرب بين النظامين البعثيين (البيانيين عروبيا) في سوريا والعراق، ومن ثم التحاق البعث السوري(البياني) ب(العرفان الشيعي) في إيران، حيث النظام السوري هو الوحيد-عربيا- الذي وقف مشايعا التشيع (العرفاني) الإيراني ضد (البيان) العروبي البعثي خلال الحرب العبثية بينهما ...!!!
ارتبك رحمه الله وحاول أن يرد بصيغة العموميات...لكن عندما أتيح لنا بعض الخلوة عبّر عن دهشته من جرأتي التي وصفها بالمتهورة، ومن ثم عبر عن اعتذاره من عدم تمكنه الخوض معي في هذا الموضوع الحساس، فطمأنته أن كل الحاضرين (من طلاب وأساتذة أمنيين) هم نتاج فترة الرعب الثمانيني الذين لا علاقة لهم بخطابه الحداثي التنويري ....
لقد استقبل مشروع الجابري في وسط النخبة السورية –خارج مستنقع الفاشية- بفرح عقلي استثنائي، منذ «نحن والتراث» مروراً ب «الخطاب العربي المعاصر»»، وصولاً إلى مشروعه عن (تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي ) الذي تشكلت حلقة من المثقفين في مقهى السياحي في حلب لمناقشة مشروعه هذا على مدى شهور.
كنا ننظر بتقدير وإعجاب للمستوى المنهجي الذي كان يقترحه ويمارسه ويقارب به النصوص، بغض النظر عن الرؤية الكامنة أو المحايثة للمنهج، والمقصود بالرؤية في هذا السياق هي «رؤية العالم» .
لأن مجتمعنا العربي المترع حتى الثمالة بالإيديولجيا غدا بحاجة مصيرية للتقانات المنهجية بغض النظر عن مستويات الرؤية وتنوعها في إنتاج هذه التقنية، عسى أن تكون هذه التقنية مدخلا للبحث عن شجرتها المعرفية التي أثمرتها، ومن هذا المنظور كان الحماس لتقانة التجربة المنهجية للجابري.
لقد كانت إشكالية (العلمانية) هي المدخل لسوء التفاهم بين الجابري والعلمانيين، عندما استبعدها من مصفوفته النظرية، وأحل محلها (العقلانية) التي دأب الدكتور الجابري على تقصي تجلياتها ومظانها في التراث الفكري العربي الإسلامي، مما بدا للعلمانيين حينها أن هذا التوجه لاستبدال العلمانية بالعقلانية، إنما هو مسعى محافظ يهدف إلى إنتاج معادل نظري لتعزز سلطان الإيديولوجيا التقليدية الرسمية من جهة، والتلاقي التوافقي مع بروز الإسلام السياسي الحركي من جهة أخرى، وذلك لإضفاء المشروعية والمعقولية (العقلنة) على لا معقولية حالة النكوص والتردي المعاش فكريا وثقافيا في الفضاء العربي الرسمي والأهلي بل والمدني... وهو بذلك يعيد إنتاج دور الفكر العربي في العصر الوسيط، الذي قامت فلسفته -وفق الجابري نفسه- على ترجمة الفكر اليوناني (الفلسفة والمنطق) بما يضفي المشروعية على واقع الفكر الرسمي للسلطة الرسمية في زمنه وهي السلطة العباسية، وهنا لابد من تذكر تفسيره لحركة الترجمة في أيام المأمون وبروز التيار الاعتزالي بوصفه (ايديولوجيا) السلطة الحاكمة... إن مثل هذه الاستخلاصات ضد الراحل لم تكن تخلو من حدة وقسوة إذ هو يبحث عن أفضل المسالك لتمرير مشروعه التنويري من وراء ظهر سلطة الرأي العام وسلطة الرأي الخاص جدا...!!!.
باريس