يرتبط بتفاصيلنا الصغيرة، بنا نحبو في عالم البدايات؛ نحفظ النشيد، نردده، نقلده، نضعه على «مسجلاتنا» الصغيرة، ونمتد طولاً ونحن نتخيل جلستنا الواثقة أمام «المايكروفون» المتواضع: «هذه إذاعةُ المركز الصيفي بعنيزة»؛ فتلتئمُ سماءاتُ «المليحة» لتصغي إليه - إلينا عبر «المجموعة» وهي تتمايل بلوحة الوطن والأمة: (من ست مئة مليون من كل عشيرة ولون، أنا صادقٌ لو قلت عائد إلى فلسطين الحبيبة، أبو تركي وأخو نورة، سلمك الله يا بو عبدالله، فيصلنا يا فيصلنا، فيصل هو الحد الفاصل)...
كانت تلك فواصلَ برامجنا الجميلة الممتدة بالتلاوات الكريمة والأحاديث الشريفة وأقوال الصحف وكلماتٍ وحواراتٍ مثلت لنا عالماً من العطاء الإعلامي المختلف، وجوًا من التسامح والحوار المؤتلف؛ فقد كانت الموسيقى تبث على نطاق المدينة فيسمعها المجاورون والمارون، ولم ينكر علينا أحد، وحضر شيخ معروف لإلقاء محاضرة فتمنى على مدير المركز إلغاء الأناشيد المصحوبة بالمعازف فرد عليه مدير المركز - وكل هذا في ندوة علنيةٍ يحضرها الطلبة - بأن «هذه أناشيد شبابية تثير الحماسة والانتماء»، وانتهى النقاش بابتسامة الطرفين.
حكاياتٌ تبدو - لجيل اليوم - خيالية؛ فهل تستطيع إذاعةٌ مدرسية الآن ارتداءَ الزمن الطيب ووضع نشيد مموسقٍ في هيكلها داخل أسوارها؟ لن نتعب في الإجابة كيلا نتيه في التبرير والتفسير، وعلى أي حال؛ فهكذا كنا وأكثر من هذا في حفلات الأندية الرمضانية الليلية، ومن شاء استزادة فليقرأْ كتاب «وفق التوقيت العربي: سيرة جيل لم يأتلف» لممضي هذه السطور.
لنعد لصاحبنا الذي اعتنت كلماتُه بتحريك المشاعر الإسلامية والقومية والوطنية في وقت «الحرب الباردة» بين المعسكرين «الفيصلي والناصري»، وتأثرنا - بحكم المرحلة العمرية - بالصوت الأقرب الذي استطاع مخاطبتنا بما نعي، مثلما خاطب «أحمد سعيد» كبارنا بما يعون.
كنا نستعيد: «حبيبي مرني ف جدة»، «صباح الشوق يا بريدة»، «هيا يا ربعي هيا للمنطقة الشرقية»، «رمان الطائف» «حيوا جبل شمر»، «لو كلفت عليك تقول لي درب الطايف وين»، وكنا نسمع اسمه يتردد بوصفه كاتب الكلمات، ثم مضى بنا العمر لمسارح ومطارح فأُنسيناه، والتحق صاحبكم بالإذاعة «الرسمية» (1985-2000م) فما رآه أو سمع عنه ولا حتى سأل عنه؛ فذواكرُنا محدودةُ المدى لمن هم في الإطار أو ضمن المسار، حتى جاء الحفي الوفي أستاذ الإذاعيين «من جيلنا» الدكتور زهير الأيوبي فبعثه من مرقده، واستعاد سيرته ومسيرته، وكان الفرح الممتزج بالألم والأسف.
الشاعر العربي السوري الكبير مسلم صبري البرازي (1934م) يعيش بيننا في عزلة إجبارية بسبب المرض والشيخوخة والوحدة، وقبلها وبعدها بسبب الجحود والإهمال؛ فلم يعد لوطنه، ولم يلق الرعاية التي تليق به هنا، وكما أشار الأيوبي؛ فهو يعاني من مرض النقرس وليس معه جوازُ سفر ولا إقامةٌ ولا هُوية ولا سائقٌ يعينه في تنقلاته ولا مالٌ يفي بنفقاته، وليست حالته بدعًا؛ فنحن نرى من هم أمامنا، ولا يُهمنا من مضوا أو قضوا، وتبحث في الناس أفرادًا فإذا الوفاءُ طبعُهم، ولكنه التنظيم المؤسسي العاثر الذي يعرف البندَ العتيد «1- 7- تقاعد» ثم لا شيء بعده إلا ذكريات الصمت والحنين والأنين .
لا نريد للوفاء أن يتحول إلى صدقةٍ أو فضلٍ أو مبادرات ذاتية متفرقة، ورجلٌ بحجم هذا الشاعر الكبير يواجهنا عقوقُه بسوءاتنا الأخلاقية؛ فهل نبدأ رحلة التطهر..؟!
الطيب لا يُذَكر به.
Ibrturkia@gmail.com