استقر خيالها وسط الجدار الفقير يبث فيه تفاصيل خلقتها الفاتنة كوردة في قفر أجرد غنية الألوان فقيرة الرائحة. يشبِع نظره منها صباحا ويلقي عليها تحيته كل مساء. ينسج حولها حكاياته المعقدة ويقف معها على أطلال أمنياته الهاربة وأحلامه الموءودة. يغمض عينيه أحيانا ويلصق خده بموضع الخد في الجهة اليسرى حيث (الغمازة) تظهر بوضوح تمارس الغواية بسرف مستبد.
يمرر يده على العنق وتحت الأذنين مرورا بالكتفين. يتوق بشدة إلى تقبيل مكان بذاته في صورة الوجه البيضاوي شديد الحلاوة لكنه يتراجع آسفا خشية أن يلتصق ورق الصورة بشفتيه فيتلف شيئا منها.
لأحظ أنه إذا اقترب كثيرا منها تشتت تقاسيم الوجه وتحولت إلى جزئيات صغيرة تخدش اكتمال تجسدها في خياله فيتراجع لكي يتأملها من مسافة مناسبة فتكون الرؤية واضحة والألوان أكثر اتساقا والظلال أكثر دقة.
ذات عشية بعد جلسة تأمل طويلة قرر أن يغير مكان الصورة من حيث هي في جدار غرفته الخارجي المقابل لمرآة المغسلة إلى داخل الغرفة الضيقة ذاتها إلى اليمين من سريره المعدني بارتفاع عنه قارب الشبر أو أكثر بقليل.
اتخذ وضعية النوم على الجنب الأيمن كما يفعل كل ليلة، وضغط بإبهامه اليسرى مبلولة ببعض من ريقه في الجدار الأسمنتي الصقيل ليحفظ المكان الذي اختارته عيناه كي يلصق عليه سره الذي لا يعلمه من أحد. تمنى فقط لو كانت الصورة مكتملة الأطراف من أخمص القدم حتى قذلة الرأس.
نهض إليها وشرع يحك أطرافها بموس ماركة التمساح ابتاعه خصيصا لهذه الغاية، وبحذر شديد وقداسة ظاهرة أخذ ينفذ مهمته كمحترف ينتزع طوابع بريدية. حرر الطرف العلوي الأيمن وتبين له أن الصورة مجوفة من الداخل، وأن اقتلاعها أسهل مما كان يظن.
سمع طرقا بالباب، تركها معلقة بأطرافٍ ثلاثة وذهب كي يرى. بعد أن تملص من الزائر بعبارات زائفة نظر إليها من بعيد وقد انكفأ ذلك الجزء المحرر من الصورة على شعرها وجزء من وجهها والجزء الذي تحتله (الغمازة). وقد ذهب النزع بشيء من ورق الصورة ومعه قشرة غير عميقة من الطلاء الرمادي للجدار سقطت مفتتة على الأرضية الأسمنتية الجرداء.
عاد وفرد الصورة بذراعه على صفحة الجدار وتأمل تفاصيلها المليحة مجددا ثم أرخى يده فتقلص الجزء العلوي بشكل لولبي حول ذراعه وأخذت كفه تجوس بحميمة دون رؤية في معالم الصورة المخفية. احتار كيف له أن يحرر الأجزاء السفلية من الصورة دون أن يفلت الجزء العلوي منها؛ فأسندها بجذعه العلوي وحرر يديه وشرع يحرر الأطراف السفلية الباقية بحد الموس.
وفي المرآة التي انسكب عليها شيء من وهج الشمس وانعكست على صفحتها بعض تفاصيل معيشته والجدار الذي يتكئ عليه شاهد العينين ترنوان من فوق منكبيه وكذا الغمازة بينما الشعر الأسود الكثيف يخالط شعره الأشيب الشحيح.
توقف عن الكحت وشرع يتأمل بعمق ظلالَيْ الصورتين في المرآة. عندها تبين له بوضوح البون الشاسع بين الأصل والصورة.
قاص سعودي