شهدت السيرة الذاتية منذ العقود الأولى من القرن الماضي في المجال العربي طفرة كمية ونوعية على صعيد الإبداع، وأقبل عليها أعلام الأدب والفكر وغيرهم. وليس من شكّ في أن هذه الطفرة واكبت جملة من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي اقترنت بحضور أنماط في العيش وفي التفكير جديدة، تسربت إلينا من اتصالنا بالغربيين، واطلاعنا على أحوالهم وإنتاجهم الفني والفكري. وفي مركز هذه الأنماط ظهور الفردانية باعتبارها: منظومة فكرية، تقوم على الإعلاء من شأن الفرد، وإيلائه المقام الأرفع في الهيئة الاجتماعية.
ولهذا السبب كان الحديث عن جنس السيرة الذاتية قبل «اعترافات» روسو التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر ضرباً من المجازفة، إن لم نقل: إنه من قبيل المفارقة التاريخية. هذا دون أن نغمط حق المتقدمين في البحث عن أشكال تعبيرية مستوحاة من الذات وقضاياها وهمومها وأحلامها.
ولعل هذا الوضع هو الذي جعل «نظرية السيرة الذاتية» متأخرة في الظهور عند الغربيين وأكثر تأخراً عند العرب المعاصرين، الذين انقسموا قسمين: أحدهما جاهل لما يجد في العالم، صارف نظره عما بلغه أهل الدراية والاختصاص في هذا الميدان من نتائج، والآخر تابع لما ظهر في الغرب، ناسخ له في أحسن الحالات.
في هذا السياق يتنزل كتاب أحمد بن علي آل مريع الموسوم ب»السيرة الذاتية: مقاربة الحد والمفهوم» وهو محاولة جريئة لتأمل هذا الجنس الطري العود، والسعي إلى استنباط خصائصه ومقوماته، انطلاقاً من الرصيد النظري الذي حققه دارسوه، واعتماداً على ما بلغه منجزه الإبداعي من تطور ونضج.
ولقد عمل المؤلف على اتباع خطة في البحث تميزت بالتحري في الاطلاع على أعمال السابقين، والتأني في إصدار الأحكام، والحرص على التواضع، دون الوقوع في أحابيل المجاملة، التي كثيراً ما تفسد العلم. لذلك استضاء الباحث بأعمال غيره من الباحثين العرب خاصة، ونظر فيها نظرات عميقة متزنة اتسمت غالباً بالموضوعية والإنصاف، وتوسع في ضبط الحدود الفاصلة بين السيرة الذاتية والأجناس المجاورة لها -شأن الاعترافات والذكريات والرسم الذاتي والمذكرات واليوميات أو اليوميات الخاصة والمفكرة اليومية والمذكرات المضادة والسيرة الجزئية- درءاً للبس الذي كثيراً ما يقود إلى سوء الفهم والتعميم المخل بمبدأي الجمع والمنع اللذين لا يستقيم التعريف دونهما.
ولقد بذل آل مريع جهداً مشكوراً في توضيح الغوامض، واقتراح الحلول وتأصيل مفردات البحث في المجال العربي الإسلامي. ويبدو أن فكرة الانفتاح على الغير لم تذهب به إلى حدود الانسلاخ عن هويته والانصهار في الآخر. فكانت محاولته: نقداً للنقد، وتكريساً لمبدأ التراكم المعرفي، وسعياً إلى بناء الشخصية العلمية الجامعة بين الأصالة والانفتاح.
تونس