يستشهد بعض النحويين في باب التوكيد لتوكيد الحرف بتكراره، قال الأشموني (شرح الأشموني على ألفية ابن مالك،1 : 205) «أما الحروف الجوابية فيجوز أن تؤكد بإعادة اللفظ من غير اتصالها بشيء لأنها لصحة الاستغناء بها عن ذكر المجاب به هي كالمستقل بالدلالة على معناه، فتقول نعم نعم، وبلى بلى، ولا لا.» وجعل منه قول جميل بن معمر:
لا لا أبوح بحب بثنة إنها
أَخذت عليَّ مواثقًا وعهودا
والمتأمل في معنى البيت لا يرى تكرار (لا) للتوكيد؛ إذ الحرفان مختلفان، فالحرف الأول حرف جواب، أما الحرف الثاني فحرف نفي. ويجب أن يسكت على الحرف الأول سكتة لطيفة، وأن توضع فاصلة بين الحرفين:
لا، لا أبوح بحب بثنة إنها
أَخذت عليَّ مواثقًا وعهودا
ومن شواهدهم في باب الموصول لاستعمال (مَن) لغير العاقل قول الشاعر:
أسرب القطا هل مَن يّعير جناحه
لعلي إلى من قد هويت أطير
والبيت منسوب إلى مجنون ليلى فهو شاهد، وهو منسوب إلى العباس بن الأحنف فهو مثال لا شاهد، ولكنه عندي لا يصلح شاهداً ولا مثالاً؛ لأن (مَن) مستعملة للعاقل؛ فالشاعر إنما يخاطب القطا مخاطبة العاقل، ولا يكون ذلك إلا بما يستعمل للعاقل، وللبيت رواية أخرى هي التي نجدها في الدواوين تختلف عن إنشاد النحويين أو اللغويين كالقالي في أماليه، وفي هذه الرواية نجد (مِنْ) بكسر الميم وهو حرف جرّ، وبعده (مُعيرٍ) اسم فاعل، قال الشاعر:
أسِرْبَ القَطا هَل مِن مُّعيرٍ جَناحَهُ
لعلّي إلى من قَد هَوِيتُ أطيرُ
ومن شواهدهم على حذف همزة الاستفهام (مغني اللبيب،1: 76) قول عمر بن أبي ربيعة:
ثمّ قالوا: تحبها؟ قلت بهْراً
عدد الرمل والحصى والتراب
أي: أتحبها. وقول الكميت:
طربتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطربُ
ولا لعباً منّي، وذو الشَّيب يلعبُ؟
أي: أَوَذو الشّيب يلعب؟
والصواب عندي أنْ ليس هذا من قبيل حذف همزة الاستفهام بل هو من الاستفهام بتنغيم الجملة تنغيماً يخرجها من الإخبار إلى الاستخبار، وهذا كثير في لغة خطاب.
الرياض